في عام 1975م أتذكر حينما كنت طفلاً حيث أحب أن آتي في الإجازة الأسبوعية إلى بيت جدي عبدالعزيز البحيري مع أسرتي في بيته الكائن في حي القرينة بالرياض ” خلف أسواق الجفال ”لأنني أكون سعيداً برؤية جدي عبدالعزيز وجدتي نوره الحمودي لأنني أشعر بصحبتهما بالمحبة والحنان والرحمة ، وأتعلم منهما أشياء كثيرة منها حب الخير للناس كما يحبونه لأنفسهما ولأنهما رحمهما الله كانا يشعراني بأني رجلاً كبيرا فكنت أستمتع بسماع القصص من جدي ومداعباته ولأنه يسعدني سماع كلماتهم ورؤية ابتسامتهم الجميلة مع القريب والبعيد والقاصي والداني وكان العطاء والسمت والشيمة والمرؤة شعاراً لهما في حياتهما ولازلت أتذكر يوم الخميس وكان في شهر جمادى الأولى حيث كانت الأجواء الممطرة أو تكون في غالب الأيام ملبدة بالغيوم وكانت جدتي رحمها الله في ذلك اليوم قلقة وتترقب بأن يكون اليوم أو الليلة ولادة شاة حيث كانت دافع ويعتبر أول حمل لها وكان لنا حوش كبير في أرض الأمير عبدالله بن عبدالرحمن رحمه الله وكانت هذه الأرض مقابلة لبيت جدي فقد ذهبت جدتي صباحاً ثم بعد العصر لكي تطعم الغنم والدجاج وتتفقد الشاة الدافع والدجاجة البلدي الصفراء الراجنة على البيض في عش قد وضعت لها فيه تبن وكان بمعزل عن الدجاجات وبقربها ماء وأكل، ثم عادت جدتي للبيت وكان فكرها مشغولاً بذلك، وعندما جاء العشاء أخذت تسمع مواء الأغنام وقواق الدجاج فعلمت بأن هناك خطب ما، فقالت رحمها الله تعال معي يا ولدي وأعطتني السراج لأن الحوش الآن مظلم كما أنها كانت ليلة باردة شديدة الظلمة وهي قد جهزت المنقد حيث كان به جمرات ووضعت على رأسها قدر صغير ثم حملت المنقد وقطعنا شارع الحارة متجهين للحوش وحينما وصلنا للباب أنزلت المنقد وأخرجت المفتاح من جيبها وفتحت الباب، ثم حملت المنقد مرة أخرى ودخلنا وكانت الرائحة تنبعث من أعشاش الدواجن ومرابض الغنم، ودخلنا لقسم الغنم وكانت هناك شاة صغيرة منزوية تتألم وتصرخ و تعاني من المخاض وهي لا تدري وكلما أرادت بأن تكون قريبة من الغنم الأخريات لتشعر بالأمان معهم، فكانوا رفيقاتها يدفعونها بعيداً لكي تموت بعيداً عنهم، فهي كانت تريد دفع هذا الألم بقربهم، وكانت تدور و تتحرك من غير شعورها على غير هدى من شدة الألم وكنا نسمع صوت ريح مخيفة لها صوت مرعب مع شدة الظلمة وكان البرد يؤلمها مع نحرها ووجها ومع مؤخرتها، لذلك تشعر بالرجفة والوجع من كل عرق في جسمها ثم قربت جدتي المنقذ من حولها لكي تدفئها،لأن ولادتها قد حانت ثم أخذت جدتي تسمي عليها وتمسح على رأسها وظهرها وتقرأ بعض الآيات ، ثم بعدها شعرت بالإطمئنان قليلاً ولكنيها تتزوي وتصرخ من شدة الألم ولكن هذه المرة أعلى صوتاً وعندما رأت جدتي تفطر الشاة من الألم نزلت دمعتين أخذت تتهادى على وجنتيها وبعدها بلحظات باعدت الشاة ما بين رجليها وأخفضت ليتها وهي تهتز وتنعصر عضلاتها وتتشنج أكثر لينزل بولها ساخناً له دخان مخلوطاً مع الدم، فقالت لها جدتي وهي تمسح عليها ” أصبري يا صغيرتي فسوف تلدين مولوداً جميلاً إن شاء الله وتكوني سالمة وسترتاحين وتكوني سعيدةً بصغيرك فما بعد الضيق إلا الفرج والله يفرج عنك” وهي تمسح برقة وحنان على رأسها وعلى بطنها ،ثم ازداد الطلق وأصبح موجعاً أكثر وأكثر وكانت ليلة قد أخذ يدوي فيها صوت الرعد والبرق يضرب بسياطه ثم بعدها أخذ يهطل المطر بشدة لينزل الله خيره وفرجه وفي لحظات تسارعت أنفاس الشاة لينزل وليدها بالتدريج وجدتي تساعدها برفق وكانت جدتي قد وضعت في الإناء ماء وسخنته على المنقد، ثم لحظات ونزل وليدها فلقفته جدتي بيديها وغسلته بالماء الدافئ ونشفته بالفوطة وحضنته وقبلته على رأسه وألتفت الشاة بكامل جسمها إلى مولودها وهي تشمه وتلحس رأسه وتشعر بالراحة والسعادة بعد الضيق والكرب فغسلت جدتي ضرع الشاة وحلبت منه على الأناء الذي كان به ماء لأنها منذ شهور لم تحلب وقالت لو أن صغيرها رضع منه مباشرة فسيتضرر ويموت ثم أحضرت الصغير ومسكته حلمه من ضرع أمه وجعلته يرضع من اللباء” حليب الأم بعد الولادة” وبعدما شبع أخذت جدتي من جيبها شماله”غطاء من القماش للثدي” لتلبسها ضرع الشاة على أن يرضع المولود في أوقات محددة وبعدها عزلت جدتي الشاة ومولودها الصغير في مكان لوحدهما بعيداً عن الأغنام الأخريات ووضعت عندها الماء والأكل ثم سمعت صوت الدجاجة الراجنة وهي تنقنق بصوتها عالياً ، فذهبت جدتي عندها ورأت أن الدجاجة قد فقست جميع بيضاتها وأصبح لها صيصاناً جميلة وكانت جدتي فرحة لإنها قد اختارت البيض بعناية من دجاج بلدي من عند بعض صديقاتها اللواتي يربين الدجاج البلدي مثلها، فكانت هذه الليلة جميلة ومباركة عند جدتي رحمها الله حيث المطر والجدي والصيصان وحينما أردنا الخروج من الحوش أخذت جدتي معها المنقد وأنا كان معي السراج فأقفلت جدتي الباب وعدنا راجعين إلى المنزل حيث كانت الأمطار قوية وكانت ميازيب بيتنا وبيوت الجيران تصب وعندما دخلنا البيت ذهبت لغرفتها ووضعت السراج وحيما هممت بالذهاب نادتني ثم دخلت غرفتها وشممت رائحة البخور ودهن العود والمسك والعنبر حينما فتحت صندوقها الكبير الملون وأسندت غطاءه على الحائط رأيت مرآة صغيرة وكان ممتلأ بصرر كثيرة صغيرة وكبيرة فمنها بعض الأعشاب مثل المرة والحلتيت والصبر وكما به صرر بها قماش فاخر مزينة بسلوك من ذهب فبعضها بها لبان وبخور وقوارير صغيرة من دهن العود والمسك والعنبر وكان هناك بعض زجاجات العطر وبعض القطع من القماش الفاخرة التي قد اشترتها واحتفظت بها لكي تهديها على بعض النساء وخاصة المحتاجات، كما رأيت بعض المناديل المصنوعة من القطن وفي جانب آخر كان هناك أبوفاس وفكس وفازلين وماء غريب وكريم للشعر وبعض من أمشاط الخشب ولزقات للجسم كما فتحت القسم السري من الصندوق وأخرجت كيس بها أنواع من الحلوى والقريض وأعطتني منه ،فهذا الصندوق خاص بها كدولاب لأنه لم يكن هناك دولاب ملابس في ذلك الوقت وحتى أنها تضع به حوائجها التي تعالج بها بعض الناس حيث كان كصيدلية أيضاً، حيث كان يزورها بعض الناس المرضى من نساء وأطفال كانت تقوم بعلاجهم وتقرأ عليهم القرآن بما يتيسر من القرآن الكريم وكان ذلك لوجه الله ، كما كان لديها مياسم للكي تكوي بها أحيانا وقد كانت جدتي لديها خبرة في بعض الطب الشعبي ، تساعد فيه الناس بما تقدر عليه حيث لم يكن هناك مستشفيات ولا مستوصفات ،وبعدما أصيبت في حادث سيارة لم تعد تستطيع أن تعطي من وقتها للناس في العلاج لأن صحتها لم تعد تساعدها فلذلك جدي وجدتي ووالدي وعمي إبراهيم رحمهم الله قد تركوا بصمات حيواتهم على القلوب والعقول و لازال الناس يذكرونهم بالخير ويدعون لهم.
سلمان محمد البحيري