في اليوم الرابع من رمضان الموافق يوم الخميس في عام 1440هـ وحينما صليت الفجر عدت للمنزل ثم صعدت إلى مكتبي وأخذت أقرأ ماتيسر لي من القرآن الكريم وحينما بدأ نور الصباح في الظهور زادت زقزقة العصافير وغناء القمري،وتذكرت حينها حينما كان منزلنا في حي الحبونيه بمدينة الرياض بجانب الطويلعه حيث كانت الطويلعه في ذلك الوقت مزرعة كبيره وبها نخل كثير وبئر مطويه، وكانت الحياة في ذلك الوقت بسيطة وكان غالبية الناس مستواهم المادي واحد تقريباً وبيوتهم من الطين،ولقد كان للريال قوة شرائية كبيرة في ذلك الوقت ،وكان أحيانا والدتي إذا كان والدي غائباً تكلفني أو تكلف أحد أخوتي لكي نشتري بعض الأغراض للبيت وأذكر حينها إذا أردت الذهاب للشراء تعطيني والدتي خمس ريالات حيث أذهب على الدراجه العاديه “السيكل ” وأحضر ماتريده أمي من البقالة والخباز والفوال والجزار ومن سوق الخضار بعتيقه حيث لازال تحت الإنشاء في ذلك الوقت وكنت أذهب للبقالة واشتري منها مثل المكرونه والشعيريه الخميره والتوت ومن الخباز بريال عشر خبزات من الخبز العادي ومن الفوال قدر صغير بنص ريال ثم أذهب لسوق الخضار لأشتري بعض الطماطم والبطاطس والكوسه والورقيات ثم أعرج بعد ذلك على الجزار واشتري منه كيلو لحمه وكان الجزار من أهل الحريق ويعرف والدي ويعطيني أطيب ماعنده في اللحم وعليه زياده ويقول سلم لي على ابوك، وكنت أذكر في ذلك الوقت بأن الذبيحه بعشرة ريالات وعندما وصلت بعد سنوات لمائة ريال ومائة وعشرون قالوا قد غلا اللحم ،وأما الأغراض الأخرى مثل الرز والسكر والتمر والبر “القمح ” والفاكهة بأنواعها هذه كان يشتريها والدي وعندما أصل للمنزل أنزل الأغراض من على السيكل وأدخلها في المطبخ عند أمي وتكون أمي فرحة وتقول لي “ماشاء الله عليك أنت رجل تعرف تشتري الله يعافيك” وثم تبدأ والدتي بإعداد فطور رمضان وكنت أنا وأخوتي ندخل عليها ونسألها إذا كانت تريد منا مساعده وكنت أستمتع وأنا أراها تعد الشوربه والشعيرية والمكرونه واللقيمات وتجهز الفول بخلطته الخاصة وشراب التوت واحيانا تعد لنا مشروب من مريس التمر وطبعا الأفطار لايخلو من الرطب والقهوه والماء البارد وكنا نجلس جميعا مع والدي ووالدتي واخواني على مائدة واحده وكان قبل الأذان تعطيني أمي أو تعطي أحد أخوتي أكل مما صنعته لكي نعطيه الجيران المحاذين لبيتنا عن يميننا ويسارنا لكي نكسب الأجر ونذوقهم من إفطارنا وكذلك الجيران يفعلوا معنا ذلك،وكانت هذه أجواء رمضان في ذلك الحي ،ولكن بعدما أنتقلنا للمزرعة بعد خمس سنوات تقريباً إختلف الوضع وكان ذلك في عهد الملك خالد رحمه الله وكان الصوم في المزرعة له روحانية خاصة بالنسبة لي حيث الهواء النقي والماء العذب من البئر حيث لاتلوث ولا إزعاج حيث البيئة البكر والهدوء والأمطار في الشتاء والربيع ولا تسمع إلا صوت أنواع الطيور مثل القطا والحجل والعصافير وحفيف الهواء من عند الجبال والشجر والنخل وروائح المزروعات مثل النعناع والحبق وأحواض البرسيم عندما تسقى،وأذكر بأنني في رمضان بعد صلاة الفجر لا أنام حيث أتمشى في المزرعة و أرقب ظهور النور الصباح حتى تظهر أشعة الشمس الذهبية ورائحة نسيم الصباح التي تنعش القلب والعقل والروح وأصعد الجبل لكي أكون في الغار لكي اتأمل ولكي أرى من فوق مزرعتنا و شعيب وبره بالكامل وأنظر لمزارع عماني ومزرعة محمد بن خميس ابن عمتي من جهة جدي محمد وزوج عمتي لأنه متزوج بنت جدي عبدالعزيز ومزرعته كانت موازية لمرزعتنا بمحاذاة الوادي،وحينما أكون في الغار أسمع صوت العصافير والقمري والقطا وبعدها بنص ساعه تقريباً أنزل من الغار وأمشي على الجبل وأنا نازل أرى العمال يعملون بالمزرعة صباحا أما في الرياسه ” سقي الماء ” لبعض أحواض المزرعه وبعضهم من يعمل في حصاد البرسيم للأنعام البقر والغنم والماعز أو في تعشيب الجداول والأحواض من الأعشاب الضارة ، ثم أذهب أنا أو أحد أخوتي لخراف الرطب من بعض النخل للبيت وأمي تذهب لتحلب البقرة وأحد الشياه وجدتي تذهب لترى بعض الشياه والماعز وتتفقد الدجاج ولكي تعطيهم أكلهم من خلطة الحبوب مثل الذرة البيضاء والصفراء والدخن ولكي تأخذ البيض للمنزل وتتفقد بعض الدجاجات التي تريد أن ترجن لكي تضع تحتها بيض وعند العصر كنا نذهب مع والدي لأحواض المزرعة “الأشراب ” لأجل الحصاد مثل الكراث والبقدونس والكزبرة وقلع البصل الأخضر لأن موسمه في رمضان أكثر،وبرغم وجود عمال في مزرعتنا ولكن كان جدي عبدالعزيز وأبوي محمد رحمهما الله كان يحرصان على أن نتعلم الفلاحة والعمل في المزرعة وبعدما كبرنا قليلا كان والدي محمد يعطينا بعض الأشراب “الأحواض ” لكي نعمل عليها ويكون محصولها لنا لأجل تحفيزنا للعمل ولكي يكون لنا دخل أنا واخوتي وكل يعمل في مساحته المعطاة له ويعزقها بالمسحاة ويغذي الأرض بالسماد الطبيعي والرمل والطين ويخلطها مع بعضها ثم يساويها ويبذر الأحواض شيء ببذر الكراث والبقدونس و الجرجير وبعدما يبذر يخط بالعصا خطوط نص دائرية من أول الشرب وحتى نهايته حتى تتوزع البذور بالتساوي ثم يسقى كل يوم إذا كان في الصيف وأما في البرد فكل يومين، وكنا نتابع مراحل نمو الزرع في الأشراب حيث نراه وهو يشق البذور وهو يطلع برعماً ثم نبات وله ساق وأوراق ثم إذا كبر قليلا نحصد المحصول بالمنجل ونربطه بخيوط ونجعله في صرر موازية لقبضة اليد ثم نضعه في عربية المزرعة ونضعه في السيارة ونرش عليه بالماء لكي نبيعه في السوق الفجر أو في رمضان بعد صلاة التروايح، وعند قرب أذان المغرب نعود للمنزل وأرى جدتي رحمها الله ووالدتي عافاها الله قد أعدوا لنا فطاراً شهياً وخاصة جدتي تبدع في أعداد المكرونه بقطع اللحم وبعض الخضار مع الليمون الأسود ولازالت تسمى حتى الآن “بمكرونة الجده” وأيضا هناك على المائده الشوربه والشعيرية وكريم كراميل والسمنبوسه واللقيمات وهناك مشروب التوت وعصير قمر الدين وأحيانا العشاء يكون قرصان أو مرقوق وهذا نادر في رمضان حيث نفطر جميعا في العريش ثم نصلي المغرب في المسجد بجانب العريش ثم نشرب بعض من شاي التلقيمة بالنعناع المخدر في الأبريق ثم نذهب نحن الصغار لنرى مافي التلفاز من برامج وافلام كرتون وعند صلاة العشاء والتراويح نصلي جميعا وبعدما نفرغ منها تكون والدتي قد قطعت لنا شرائح من البطيخ “الجح ” والشمام في صحن كبير حيث يكون بارداً، وكان أحياناً يأتوننا بعض الأقارب أو أصدقاء العائلة لاأعرفهم ليفطروا عندنا في رمضان وكان يروقهم كثيراً جو المزرعة وخاصة ليلاً وعند موعد نومي أفرش فراشي في السطح بعدما أرشه بالماء وعند النوم كنت أستمتع وأنا مستلقي على ظهري في فراشي وأنا أرى النجوم وأستمتع أكثر إذا كان في ليلة مكتمل البدر حيث أرى السماء بوضوح وتخاطف النيازك وأشعر بالراحة وأنام وقبل السحور بساعتين يوقظني أهلي لأجل السحور وكان السحور في الغالب جريش أو رز بالربيان وأحياناً رطب مع اللبن الطبيعي أما بقري أومن الماعز او الغنم،نعم هي كانت حياة بسيطة وبها عمل ولكن تعلمنا من الحياة في المزرعة بأن الحياة تستحق بأن تعاش من خلال التعلم والعمل والصبر والإتكال على الله والأيمان به وأن الرزق منه وأن مانزرعه نؤجر عليه حيث يأكل منه الإنسان والطير والحيوان،لذلك كل هذه القيم قد زرعت فينا من الداخل كما زرعت الأرض وصنعت منا رجالاً يعتمد عليهم كما جعلنا نحب الأرض ونحب زراعتها والمزارع ، هذا مادار في خلدي عند الصباح الباكر عندما هيضني نسيم الصباح وغناء العصافير والقمري وجعلني أتذكر روحانية رمضان في الماضي، حيث كان جو العائلة أكثر حميمة عما هو الآن وكانت البنات يشاركن مع أمهاتهن في رمضان ،ولا يتأففن من العمل في المطبخ حيث لايجعلن والداتهن يتعبن لوحدهن في ذلك ولكي يشاركونهن في أجر العمل وتفطير الصائمين، هذا كان رمضان في ذلك الزمن الجميل.
سلمان محمد البحيري