في فترتين متقاربتين من حياتنا قُبِضَ على سفاح وسفاحة بتهمة واحدة تقريبًا في نوعها، مع اختلاف في الأسباب والأسلوب. أما السفاح فقد تهيأت له أسباب الجريمة منذ مولده، نشأ في أحضان الفاقة، قسا عليه أبوه ونبذه، تسلمته الإصلاحية فقضت على آدميته وكرامته، وشحنته بالمَقت والغربة والرغبة في الانتقام، تجسدت فيه عيوب شتى من عيوب الأسرة والمجتمع، خلقت منه حشرة مؤذية، فارتكب العدوان على البراءة بلا تردُّد، وسفك دم ضحيته ببرود شيطاني، ووقف هزيلًا مستهترًا يرمق فعلته ببلادة وجمود. واضطرب الناس للجريمة وثارت ثائرتهم، لا لوحشيتها فحسب، ولكن لأن كثيرين رأوا فيها تجسيدًا لإهمالهم وسلبيتهم، وما تنضح به حياة مجتمعهم من بشاعة وتشويه، فكانت الرغبة الحادة في القضاء على المجرم بأسرع وقت، ليختفي من حياتهم كشاهد عليهم وعلى حياتهم المتهرِّئة الفاسدة. لم يفكر أحد في محاسبة الأب، ولا في استعجال قانون الأحوال الشخصية، ولا في التحقيق مع رجال الإصلاحية؛ إذ المهم أولًا أن يختفي الشاهد، وأن يهدأ الشعور بالإثم.
أما السفاحة فكانت وراءها دوافع أخرى، دوافع ناعمة، كالطموح إلى الجاه والثراء، وخدمة أصحاب الجاه والمزاج، وهي سفاحة مجازًا، فهي لم تقتل طفلًا ولا شابًّا، ولكنها قتلت قيمًا وأهدرت أعراضًا، ولم ترتكب جرائمها الناعمة في بيت قديم مهجور، ولكن في شقق فاخرة وفيلات أنيقة، فأثارت فعلتها الفضول والابتسام، ورأى فيها أناس صورة لطموحهم وانحرافهم وولعهم بالحياة الدنيا، بل وجدوا فيها خادمًا أمينًا سقط وهو يؤدي واجبه في الترفيه عنهم.
والسفاح ثمرة مُرَّةٌ لمجتمع مريض يعج بالأبطال والتعساء، يواجه الحياة في ظروف معيشية بالغة الشدة، يبذل الجهد المتواصل في إنتاج الغذاء والكساء والحضارة، ويلقى العنت في الحصول على الحد الأدنى من ضرورات الحياة، ويقدم للأمة خيرة أبنائها من الطَّلَبَةِ والجنود والعمال، وقد تواجه بعض أفراده ظروفٌ بالغة السوء، فينحرفون ويرتكبون جرائم وحشية تشي بالمرارة والمعاناة واليأس.
والسَّفَّاحَة ثمرة لمجتمع آخر، ولكنه مجتمع أغلبيته الساحقة ثمار مُرَّة، عصابة شديدة القوة والنفوذ والسيطرة، ترتكب جرائمها في السر والجهر، يتندر الناس بمغامراتها الفذة في أسواق التهريب والاختلاسات والرِّشَا، والقِوَادة والعُهر والفساد، ويضربون الأمثال بثرواتها الخيالية، واقتحاماتها الجريئة، وقِحَتها الفريدة. يربحون بلا حساب، وينفقون بلا حساب، ويهدرون القيم والقوانين بلا حساب. وإذا سقط أحدهم عن عثرة حَظٍّ أو غفوة استهتار سقط واقفًا، بل شامخًا ينبري للدفاع عنه الجهابذة، وتكتنفه الرعاية والعناية.
فأنت ترى أننا أمتان لا أمة واحدة، أمة مترفة غارقة في الرفاهية، وأمة نامية كادحة من العالم الثالث.
نجيب محفوظ رحمه الله
المصدر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة
http://www.hindawi.org/