الكتابة عملية نفسية معقدة تتأرجح بين قمة الغرور وقاع انعدام الثقة بالنفس، ولا شك أن عددًا هائلًا من الكتَّاب هم من الشخصيات ثنائية القطبية Bipolar التي تمر بحالات رضًا عن النفس مذهلة، ثم حالات اكتئاب شديدة. سمعنا مرارًا عن الكاتب الذي يحرق كل أعماله ويوصي ألا يُطبع شيء مما كتبه بعد موته، ولحسن حظنا لا ينفِّذ خلصاؤه هذا. تُرى ما الخواطر التي جابت ذهن هيمنجواي وهو في ذروة مجده، عندما وضع فوهة البندقية في فِيه وضغط الزناد بإصبع قدمه؟! ما كان هيمنجواي شخصية هشَّة، بل كان الرجولة تمشي على قدمين، وحارب مرارًا، وبرغم هذا ندرك اليوم أنه كان يخفي قسطًا من الهشاشة وكراهية النفس. لا بد للكاتب أن يُعجَب بأعماله ويستمتع بها، وتُشعره كلماته بحالة من النشوة لا شك فيها. هذا منطقي وعادل … لو لم يُعجَب الكاتب بكتاباته فهو مخادع لنفسه والقراء؛ معناها أنه يبيع خبزًا فاسدًا وهو يعلم ذلك. قد نغفر لبائع الطعام الفاسد الذي يجهل أنه فاسد.
في الوقت نفسه لا بد للكاتب أن يملك قدرًا هائلًا من كراهية النفس وعدم الرضا عنها! وبعض الكتَّاب الذين أعرفهم يتحاشَون قراءة أي حرف كتبوه من قبل؛ لأنه يشعرهم بالضعة والفشل. كيف كتبتُ هذا؟! لماذا لم أُعِد صياغة تلك الفقرة؟! هل كنتُ ثملًا عندما كتبتُ هذه الفقرة السخيفة؟! هناك بندول يتأرجح بلا توقف بين الأحمق المغرور الذي يشعر أن ما يكتبه عبقري، والناقد الصارم شديد القسوة الذي لا يرضيه شيء. من تضخم الناقد عندهم توقفوا عن الكتابة، ومن تضخم الأحمق عندهم تدهوروا وفسد ما يكتبون … عملية معقدة قريبة من الجنون فعلًا.
بعض النقد يكون قاسيًا جدًّا، وبعض القراء لا يرحمون؛ كأنهم لن يشعروا بالرضا ما لم تنطفئ الشمعة. لكن الكاتب الحقيقي لا يتوقف أبدًا … قد يتوقف عن النشر لكنه لا يتوقف عن الكتابة؛ لأن الأمر يتجاوز إرادته … لا تستطيع النحلة التوقف عن إنتاج العسل مهما تلقَّت من نقد.
تذكرتُ هذا كله وأنا أراجع سيرة الشاعر الكبير عبد الرحمن شكري، وهو شاعر مرهف شديد الحساسية، من الأصوات الخفيضة التي لم تستطع أن تزيح أصوات الشعر العالية الصاخبة التي كانت من حولها في زمن العمالقة ذاك. تعلَّمنا في المدرسة أنه واحد من ثلاثي مدرسة الديوان التي كوَّنها العقاد والمازني بثقافتهما الإنجليزية القوية، وكانت مهمتها توجيه الضربات الموجعة للأدب الكلاسي (وخاصة المنفلوطي وأحمد شوقي)، وهو بالضبط ما حدث في تاريخ الأدب في كل لغة: مدرسة رومانسية ناشئة تسعى لهدم المدرسة الكلاسية القديمة وتسخر منها. لم يكتب شكري حرفًا في كتاب «الديوان»، لكن ساد اعتقاد خاطئ أنه شارك في الكتاب. الحقيقة أن شكري ألهم مدرسة الديوان، وكان العقل المفكر لها، لكنه كان من الضحايا الذين سقطوا تحت عجلات القطار الجامح الذي صنعه.
المعارك الفكرية التي خاضتها مدرسة الديوان شهيرة ويعرفها كل دارسي الأدب؛ إنها نموذج للحيوية الفكرية التي كانت تميز مصر وقتها، وهي درس في أن المرء يمكن أن يختصم ويتشاجر وهو يستعمل لغة فصحى راقية جدًّا، ومن دون أن يستعمل سُبَّةً أو لفظة «أمك» مرة واحدة.
تحمَّس المازني في البداية لصديقه شكري، وقارن بين شعره وشعر حافظ إبراهيم مُرجِّحًا كفَّة الأول، قائلًا: «إن حافظًا إذا قِيس إلى شكري كالبِرْكة الآجنة إلى جانب البحر العميق الزاخر.» على أن الشقاق حدث بين أبطال مدرسة الديوان؛ فاتَّهم شكري في مقدمة ديوانه «الخطرات» المازنيَّ بسرقة بعض قصائده من شيلي البريطاني وهيني الألماني وغيرهما كثير. في الحقيقة وجدتُ أنا نفسي في كتاب «صندوق الدنيا» قصَّتين كتبهما المازني باسمه وهما لمارك توين؛ صحيح أنه أعاد السرد بأسلوبه لكن الفكرة هي الفكرة.
ولما صدر كتاب «الديوان» عام ١٩٢١ قرَّر المازني أن يأكل طبق الانتقام باردًا، فهاجم شعر شكري، وكتب فصلًا اسمه «صنم الألاعيب»، وألصق فيه تهمة الجنون واضطراب الأعصاب به؛ لأن جُلَّ شعره يحتوي على كلمة الجنون. كان هذا ظلمًا بَيِّنًا وتحرشًا شخصيًّا اعتذر عنه المازنيُّ فيما بعد.
كانت هذه جريمة قتل بالنسبة لشاعر حساس رقيق، غير قادر على الشجار أو المشاكسة مثل شكري، دعك من أن حاسة الناقد لديه متضخمة أصلًا. لم يعد شكري ينشر أعماله، وقلَّ إنتاجه بشكل ملحوظ. لا شك أنه أراد التوقف أكثر من مرة … ولا شك أنه توفي عام ١٩٥٨ وفي نفسه جرح عميق.
قلت من قبل: إن الشاعر الحقيقي لا يستطيع التوقف متى أراد؛ فالأمر كاسح وأقوى منه، لو استطاع التوقف فهو ليس شاعرًا بالمرة. برغم خصام عميد الأدب العربي طه حسين مع شكري، فإنه قد قال المعنى ذاته عندما قرَّر شكري أن يعتزل الشعر ولا يقرضه. نصحه العميد بأن يصمد للنقد والهجوم، أمَّا إن كان الهجوم يغريه بالتوقف فليتوقف؛ فالشعر لن يخسر شاعرًا يتوقف إذا أرادكلمات طه حسين تلخِّص بالضبط ما أردتُ قوله.
أما عن ربع المقال الذي وعدت به فهو كما يلي: كنت أراجع بعض مقالات المازني القديمة، عندما وجدتُ منتدًى عربيًّا نشر فيه أحد أعضاء المنتدى مقالًا خطيرًا، يقول فيه: إن الدلائل التاريخية تدعونا للشك في وجود شخص اسمه طه حسين؛ هناك تناقض في المعلومات عنه وأحاديث متضاربة، مما يجعلنا نعتقد أن طه حسين شخصية وهمية أصلًا. طبعًا سخرية الكاتب واضحة، فهو يقلِّد طريقة طه حسين في منهج الشك … وكما قالوا عن طه حسين: تَشكَّكَ كثيرًا جدًّا ولم يثبت شيئًا. هذا جليٌّ تمامًا، لكن الغريب أن معظم رواد المنتدى، وهم من المهتمين بالأدب وعتاة المثقفين، راحوا يناقشون هذه الفرضية، وشبَّهها بعضهم بمعضلة هوميروس وشكسبير اللذين ما زالت الشكوك تحيط بوجودهما حقًّا. طه حسين الذي تملأ صوره المجلات وقابله المئات من طلابه والمذيعين والصحفيين، وهناك تسجيلات حية له في لقاءات تلفزيونية وفي مقدمة فيلم «ظهور الإسلام»، وبرغم هذا يعتقد البعض أن كاتب المقال جادٌّ لا يمزح! الأسوأ من هذا أن كاتب المقال نشر المقال باسمه، بينما هو مقال شهير جدًّا للمازني، نُشر في جريدة اللواء المصري في ٢٨ يونيو عام ١٩٢٥، ومن المصادفة أنه نُشر على موقع هنداوي فعلًا (راجع مقال: «في عالم الكتب: الدكتور طه حسين ومجنون ليلى»).
إلا أن مَن نشر المقال عاد بعد فترة طويلة جدًّا ليعلن أنه خدع الجميع، وأن الاقتباس من مقالٍ للمازني. يُعلِّمنا هذا أنه لا أحد يعرف أيَّ شيء عن أي شيء؛ الناس تصدق أي شيء مهما كان سخيفًا أو غير منطقي … عليك أن تضع جملة من كل مقال في محرك «جوجل» لتتأكد من أنه أصيل قبل النشر. لا تَخَفْ من المتحذلقين؛ فهم من أسهل الناس في خداعهم!
الكاتب / احمد خالد توفيق
المصدر
مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة