المزرعة كانت لهم عشق وحياة

 عند وفاة صالح العاصم كان قد ترك لزوجته نوره وأبنه عبدالمحسن المزرعة حيث قد ورثاها عنه وكان عبدالمحسن في ذلك الوقت صغيراً وكان على والده بعض الديون بسبب المزرعة و التي كانت بالقرب من وادي حنيفة لذلك استعانت نوره بالله ثم طلبت العون من أخوتها ناصر وعبدالعزيز وعبدالله وفهد والذين هم خوال عبدالمحسن العاصم وكان ذلك على عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله ، فجاؤوا أخواله ولبوا النداء و ساهموا في حفر البئر وغرسوا له حيش النخل وعملوا بعض الأحواض والسواقي وزرعوا فيها بعض المحاصيل له وكان هذا العمل قد استغرق فترة غير قصيرة حيث كان في كل موسم وكان  في بعض الفترات شبه يومي وفي احد المرات بعد فترة الغداء ذهب خاله عبدالعزيز يتمشى ويستكشف الشعاب التي حول منطقة المزرعة ثم مر إلى شعيب يسمى” وبره “ورأى بان أرضه طيبة ورجع وهو يفكر بأن يأخذ كل واحد من اخوته قطعة أرض من هذا الشعيب ليزرعها ولم يفكر في نفسه فقط، بل أخبر اخوته بان هناك شعيب أرضه جيدة وبأنه يستطيع كل واحد منهم يختار أرض له ويحييها بالزراعة لتكون ملك بعد ذلك ،فاختار عبدالعزيز صاحب الفكرة أرض له وأخبر زوجته وابنه الكبير محمد وأبناؤه الآخرين بقرار الانتقال للمزرعة عن قريب وبعدما فرغ الأخوة من العمل في مزرعة ابن أختهم اتفقوا على أن يتعاونوا في حفر الآبار لمزارعهم حيث كانت المياه في ذلك الوقت قريبة جدا لدرجة ان من يحفر متر واحد يُجد ماء وذلك لكثرة الأمطار ،ثم بدأوا الأخوة في التعاون ايضا في الزراعة كلن في مزرعته ثم صار شعيب وبره بعد فترة أخضر ورائحة مزروعاته زكية بسبب هذه المزارع والروح الطيبة والتعاون المثمر ثم أخذ الحمام والعصافير يتكاثر بسبب الزرع وغرس حيش النخل والشجر وأحاطوا مزارعهم بشجر الأثل الذي زرع والأحواض التي أصبحت خضراء ثم تساعد الأخوة على بناء بيوت الطين حتى أصبحت كل مزرعة متكاملة من حيث السكن والماء واخذت أرض عبدالعزيز تنمو بالاخضرار حيث كان ابنه محمد في عون أبيه لأنه أكبر اخوته ثم أخذت تينع بالأزهار حتى تكاثر هناك النحل والفراش وأصبحت مزرعة عبدالعزيز تتمتع بطبيعة الريف الخلابة، حالها مثل مزارع اخوته ومنذ ذلك الحين والمزارع لهم وبرغم بانه كانت تمر عليهم فترات جفاف ما بين وقت وآخر ولكنهم لم يتركوها إلا بعدما جاء الجراد وهاجم  مزارعهم وأكل الأخضر واليابس  وهاجم  حتى أبواب الخشب لبيوتهم الطينية ولم يكتفي بذلك بل وجاء في آبار الماء وملأها حتى تعفنت ودخلوا للرياض وبعدها بفترة جاء عرض لعبدالعزيز وابنه محمد لأجل الإشراف في احد مزارع مشروع الدولة الزراعي  المسمى بالسهباء في مدينة الخرج لقرب الماء ولتوفره ولجدواه الاقتصادية ثم فكروا في العرض وتوكلوا على الله وذهبوا هناك واستقروا برغم البعد عن الرياض وصعوبة المواصلات في ذلك الوقت ثم هجروا المزرعة على مضض ،بسبب أن المزارع هناك ستكون اكبر والدخل سيكون أكبر فعملوا هناك في ذلك الوقت عدة سنوات وعادوا للرياض في عهد الملك فيصل رحمه الله وفي عهد الملك خالد رحمه الله عاد عبدالعزيز وابنه محمد لمزرعتهم في شعيب وبره وأعادوا إحيائها من جديد وسعوا في اخراج صك لها بالإضافة لمزارع اخوانه الذين ايضا عادوا لزراعة مزارعهم وأحيوا الأرض مرة اخرى بعد توفر الماء وقربه وكثرة الأمطار في تلك السنين وحيث أيضاً بدأت الدولة بتقديم الدعم للمزارعين في زراعة النخيل والقمح فالحكومة قد أخذت على عاتقها تقديم دعم للمزارع وخاصة في زراعة القمح والنخيل كون ذلك يثري و يقوي الاقتصاد الوطني ويطوره والهدف من تقديم المساعدات للمزارعين حتى يستطيعوا تحمل التكلفة المادية لإنماء محاصيلهم الزراعية، مما جعل الدولة بعدها بفترة تكتفي من القمح وتقوم بتصدير التمور وحتى الورود من مدينة تبوك للخارج وخاصة للدول الأوروبية فعبدالعزيز وابنه محمد قد بدأوا العمل في المزرعة بعد شراء ماكينة بلاكستون لاستخراج الماء من البئر ثم بعد ذلك اشتروا ماطور الكهرباء وذلك قبل ان تصلهم خدمة الكهرباء وقد عملوا حوض بركة ومددوا الجداول في داخل المزرعة وعملوا الأحواض

ثم تم إحضار شحنات من السماد الطبيعي بواسطة الشاحنات والغريف “الطين ” من سد وادي حنيفة وتم وضع خطه للعمل في المزرعة بحيث يتم تعشيب الأرض قبل الزراعة ويتم ذلك في ثلاثة أيام في اليوم الرابع في الصباح الباكر بعد صلاة الفجر تحرث الأرض بالحراثة ويتم وضع كميات كافية من السماد والغريف لكي يتم خلط ذلك مع تربة الأرض وحرثها وتقليبها وبعد الأنتهاء من الحراثة في يوم وفي اليوم الثاني يبذر محمد وأبناؤه الأرض ويسقيها ويستمر في متابعاتها حتى موعد الحصاد وقد تشاور عبدالعزيز مع ابنه محمد عن مكان البيت وشرعوا في البناء فيه و كما عملوا الأحواش للحيوانات والطيور وقد اشتروا حيش “النخل الصغير” من الأحساء والخرج حيث قد وصوا من يعرفونه بذلك وكل ذلك قد حدث بالتدريج وليس دفعة واحدة وكان يبدأ يومهم في المزرعة من بعد ان يستيقظوا لصلاة الفجر ثم بعد أن يخرج النور يتم بدأ العمل في المزرعة وتأتيهم القهوة والأفطار وهم يعملون في احواض المزرعة حيث تعدان لهما ذلك زوجة عبدالعزيز وزوجة محمد وعندما وصلت شحنات الحيش غرسها عبدالعزيز ومحمد وبعض العمالة في المزرعة وكان عيال محمد يشاركون ابوهم وجدهم في عمل المزرعة وكانوا سعيدين بذلك وكان عبدالعزيز يعتمد على الله ثم على عيال محمد في هذا الشأن ، كما غرس محمد شجيرات التين والعنب ورعاها بحب كما قد زرع شجرة السدرة في ذلك الوقت و بعناية حتى نمت وبرزت أغصانها وأوراقها وأينعت بثمارها حتى يسيل لها لعاب الناظر لثمارها وأصبحت قطوفها الدانية، قريبة للرائح والغادي تمتد إليها الأيادي فصار هناك في المزرعة حقول جميلة مشرقة فوجدت الأشجار وظلها الجميل والزروع تغطى الأرض بخضرتها والأزهار مختلفة الألوان وقنوات المياه تجرى بين الزروع و لأن هناك من يعملون فيها بحب وبتفاني وبجد وفرح متحملين فيها الحر والبرد لأنهم يحبون الأرض الجميلة التي توفر لهم الحياة الكريمة وأصبح هناك أنواع من الماشية والطيور من دجاج وحمام فقد كانت زوجة عبدالعزيز وزوجة محمد تحلبان الماشية وتصنعان من حليبها اللبن والجبن والزبد والقشطة واللبنة و مما زاد حباً لجو المزرعة الساحر هو الهدوء والرضا الذى يخيم عليها وصفاء الجو وطيب الهواء وبساطة الحياة والحب للأرض الجميلة وقد تم بناء عريش من جريد النخل وبجانبه سكن مؤقت حتى يتم بناء البيت وبجانبه العريش وكان عبدالعزيز ومحمد يأتون من الرياض في الصباح مبكرا ويذهبون عند المساء لأنه لا يوجد سكن هناك كما أن الكهرباء لم تصل بعد ولم يكن هناك ماطور للكهرباء وكانت الأمور مباركة

وأما عبدالعزيز فكان من بعد الظهر يجلس في العريش مفترشا حصيرا منسوجا من الجريد، قد تآكلت بعض أطرافه ويظل عابثاً بزر مذياعه الأثري، باحثا عن أخبار لندن او الكويت أو قصيدة أو برنامج مفيد أو تمثيله أم حديجان لعبدالعزيز الهزاع وبعد لحظات أحياناً يأتي حفيده سلمان ابن محمد بصينية فضية مستديرة فيها قهوة وتمر وفناجين ثم يذهب ينادي أبوه محمد من المزرعة لكي يتناول معهم فنجان من القهوة ثم بلحظات تحضر والدته الغداء لهم في العريش ويقوم سلمان ويأتي بماء بارد من القربة أو من الزير والتي تكون تحت السدرة ثم يجتمع الجميع حول الغداء ، وبعدها بفترة يقوم سلمان ويحضر ايضا إبريق الشاي والذي يتصاعد منه بخار يفوح بعطر الشاي المنعنع فيستمتع الجميع بنقاوة الهواء والهدوء الذي لا يعكره سوى صوت العصافير والحمام فيبدأ عبدالعزيز بسرد قصصه والأبناء يستمعون ثم يتبادلون الحديث والضحك و تكاد لا تحلو لهم المتعة إلا هناك وفي بعض الأحيان يشاركه احد أبناءه في لعبة ام تسع إما محمد أو حفيده سلمان وأحيانا عبدالله اخو عبدالعزيز والذي كانت مزرعته بجانبه حيث في الغالب دائما مع اخوه عبدالعزيز ويسترجعان أحيانا ذكريات الطفولة والشباب التي تبعثرت أثارها في أماكن متعددة في هذه الحياة ويسترجعان ذكرياتهما حينما بدأوا الزراعة في هذا الشعيب أول مرة في عهد الملك عبدالعزيز حتى تحول هذا الشعيب لريف ساحر وتذكرا حينما كانا يخرجان في هذا الشعيب لصيد الحمام والطيور بالمقلاع المطاطي وأما محمد بعد أن أخذ فنجان من القهوة وبيالة من الشاي فهو يذهب للعمل في المزرعة عصراً ولكي يوجه ابناؤه والعمال حيث أخذ على نفسه عهدا بأن يجعل من هذه المزرعة جنة وارفة الظلال وكانت كل يوم تكبر المزرعة ويكثر الخضار فيها حتى أصبحت من أجمل مزارع وادي وبره وتم بناء بيت الطين والعريش

ثم أنتقل فيه عبدالعزيز ومحمد وأبناؤه بعدما أن تَرَكُوا الرياض والتحق ابناء محمد الصغار للدراسة في المدارس القريبة من المزرعة وكانت المدارس القريبة آنذاك في هجرة لبن مدرستان ابتدائية مدرسة للبنين ومدرسة للبنات وقد كانت اجتماعات العائلة الخاصة بالأعياد والمناسبات الاخرى في المزرعة ولكن بعدما أينعت المزرعة واكتملت جاءها فترة جفاف حيث شحت الأمطار ونزل الماء تحت الأرض وأصبح ابعد وبعد ذلك في بادئ الأمر تم حفر البئر القديمة عشرات الأمتار ووضع مواسير زيادة وأصبح هذا حلا مؤقتا ولكن بعدها بفترة أصبح الماء شحيحاً جداً حيث صار يتم جلب الماء عن طريق الوايت “شاحنه” من الأشياب التي تبيع الماء في وادي حنيفة استمر هذا الحال لعدة سنوات وتم حفر بئر ارتوازي لمئات الامتار وتم شراء دينامو ومددت مواسير لهذا الغرض وأصبح الماء قوي ولكن غير حلو كماء البئر واستمر الحال على ذلك حتى ايضا قد بعد الماء وأصبح ضعيفا وأصبحت المزرعة مكلفة واقنع محمد أبوه عبدالعزيز بذلك وزادت أعباء الحياة على كاهل محمد ورَبتْ همومه و ما كان يتصور يوما ما بأنه سيفارق فضاءه الممتع ،لذلك ودّع طبيعة الريف الخلابة الهادئة متجها مع أسرته إلى الرياض حيث مجتمع الصخب والضجيج ولكن سكنهما في المدينة سيكون أفضل لهم بكثير، خاصة من أجل مستقبل أبناؤهم فخرج عبدالعزيز ومحمد وأسرته من جنتهم حيث ودعوها بقلب واجف يأتي بهم الحنين والشوق إليها في نهاية الأسبوع وكان محمد حينما يأتي للمزرعة يحاول أن يعالج النخل والشجر وخاصة شجرة السدرة التي بقرب البركة إنها الشجرة التي صمدت عندما زرعوا المزرعة من أول مرة في عهد الملك عبدالعزيز وظلت حية ووفية لأصحابها حتى جاؤوها بعد عشرات السنين وظلت حية وتعطي بثمارها العبري وتآكل منها العصافير إنها شجرته العزيزة والتي كان ينظر اليها بشفقة وذكريات لا تنسى حيث كان يستظل تحتها حينما يشعر بالتعب من العمل في المزرعة حيث كان تحتها الزير ومعلق في جذعها قربة الماء، عينه تتفحص وكأنه يرثي حاله فيها لأنها قد أصبحت وحيدة وقد يحرم من ظلها وثمارها الشهية، بعد أن اصبح معظم وقته في الرياض وتذكر تغريد العصافير وهديل الحمام الجميل عليها وبالقرب من البركة وتذكر نسيم الريح المداعب لأنفاسه في الصباح والمساء ، حرم حتى متعة الذكرى بجوارها شعر بأن الرياح تجري بما لا تشتهي سفنه وأن الزمان أحياناً أصبح يعانده، حتى تلك الثمار التي كان يأتي ليقطفها لم يعد يجد منها إلا النزر القليل. حيث لم يعد يزرع فيها سوى أربعة احواض من البرسيم فقط لأن الماء قد شح لكي يكفي لسقاية النخيل تأكد أنه سيفارق حبيبته المزرعة وأنها لم تعد من نصيبه ففتح محل خضار بالمشاركة مع ابنه الكبير عبدالله في حي العليا حيث لم يفتتح بعد سوق خضار في شمال الرياض في ذلك الوقت وبعدها بفترة بيعت المزرعة ومزارع أخوة عبدالعزيز حيث اشتراها الأمير أحمد بن عبدالعزيز وبعد أن بيعت المزرعة تدهورت صحة عبدالعزيز وخاصة بعد وفاة زوجته نوره وكان أبنه محمد هو الذي يقوم على رعاية والديه وخاصة أبوه في فترة مرضه لدرجة أنه كان يحمله ما بين ذراعيه لدورة المياه ولكي يجعله يقضي حاجته اجلكم الله ثم ينظفه ويغير له وأحياناً يضعه تحت الدش لكي يغسل جسد ابيه بالماء، ثم توفي عبدالعزيز رحمه الله بعد أن اشتد المرض عليه وأما المزرعة فكأنها شعرت بما قد حدث لهم بعد مرور عام من البيع فهي ليست بأفضل حال من أصحابها الأصليين ،لم تستحمل فقدهم لأنهم كانوا يهتمون بها في حب لدرجة أن النخيل والشجر كان لها صوت في الصباح وعند المساء أما الآن فهي صامتة وحزينة فقد تساقطت أوراق الشجر الخضراء بعد شحوب وأما النخيل فقد ذهبت عنها نضارتها وتلاشت، فتحولت إلى جذوع خاوية فارغة من الحياة، هكذا الموت هي واقفة وبرغم انها خضراء ولكنها شاحبة، كأنها تحتضر لأنها فقدت من يعتبرون النخلة واحدة من ابنائهم وفقدت الأهتمام والحب وكان يتغير لونها وشكلها يوما بعد يوم، كأنها تستجدي الرحمة وتنادي على أياد تحن وتخاف عليها، لأنها افتقدت ذلك من عمال المالك الجديد للمزرعة وانطفأت جذوتها انطفأت الحياة لأن النباتات تحتاج للحب والعناية والاهتمام فلذلك المزرعة قد أصبحت كئيبة، لأنها لا شيء قد فعلوه من أجلها كما كانوا أهل المزرعة السابقين ، فالأرض حينما تعطيها الاهتمام و الأمل والحب والعناية تعطيك روح وحياة فهكذا كان عبدالعزيز وابنه محمد  رحمهما الله واسكنهما فسيح جناته كانت المزرعة بالنسبة لهما حياة.

سلمان محمد البحيري 

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …