و ما أكاد أجلس على المقعد الطويل حتى تمتدّ يده إليّ بزُجاجة الديوارس فيصب لي منها في الكأس المُضلّعة ، و يتابعني وأنا أشرب ، ثم يسأل باهتمام :
_ أين تذهب هذا المساء ؟
فأجيبه بما أنوي الذهاب إليه من سينما أو مسرح أو صالة غناء
فيقول : كلّ هذا جميل في عهد الشباب .
فأقول ضاحكاً :
_ شباب .. شباب .. لِم التغنّي الدائم بالشباب ؟ .. أليس لكلّ فترة من العُمر قيمتها ؟
_ إنّك تتطاول على الشباب لأنّك شاب ، بالله انتبه إلى قيمة الكنز الذي في قلبك ..
_لا تبالغ يا فاسيليادس ، الحياة ليست دماء و ساعات ودقائق ..
_ إذن ما هي الحياة ؟
_ هي المال قبل كلّ شئ يا فاسيليادس .
_ المال مهم جدّاً ، و لكن الشباب أهم ، ثم إن مظهرك ..
فقاطعته :
_ دعك من مظهري … الرغائب كثيرة و اليد قصيرة فلا تحدّثني عن الشباب ..
_ أتدري كيف كان صاحب هذه القهوة عندما هاجر إلى مصر ؟
_ جاء فقيراً مُعدماً ثم شقّ سبيله في عالم غير عالم الوزارة والوظائف . جميع الترقيّات و العلاوات موقوفة لأجل غير مسمّى فماذا بقى للشباب ؟
_ الموقوف اليوم يسير غداً ، و لا يبقى شئ على حاله ..
……….
فملأ الكأس و أهداني قُرنفُلة و ابتسامة ،و حلا كلّ شئ وطاب حتى نسيت فاسيليادس نفسه و جعلت أردّد بصوتٍ مُنخفض :
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم .. و لامك أقوام و لومهم ظلم
و إذا به يتساءل :
_ شعر ؟
فقلت و أنا أضحك من غفلتي :
_ نعم .
_ خبّرني عن معناه ؟
فرحت أشرح له كلمة كلمة و هو يتابعني باسماً ، ثم قال :
_ جميل حقّاً ، و لكن أأنت عاشق أم شاعر ؟
فقلت بنبرة اعتراف :
_ عاشق !
_ جميل حقّاً و لكن لماذا الكتم و لماذا الظلم ؟
_ هكذا الحب في بلادنا .
_ الحب أن تتكلّم و أن تحب و أن تمرح مع من تحب ..
_ هذا عند اليونان .
_ و الرومان .. و كلّ الناس ..
فهتفت مُنتشياً :
_ بالله احكم العالم يا فاسيليادس .
_ أنت شاب مُهذّب و قوي ، أي بنت يمكن أن تحبّك و لكن لاتكتم و إلّا فكيف يعرف المحبوب أنّك تحبه و لا تهتم بلوم الظالم
فسألني بإشفاق :
_ كيف حال الوليد ؟
_ يتقدّم إلى الشفاء ، و في الطريق آخر فيما يبدو !
_ مبارك ، هذا عهد الإنجاب ، أنت رجل محترم و لا عيب فيك إلّا أنّك سريع الشكوى !
_ الحقّ أن الحياة لا تسُر ..
_ كيف لا و أنت موظّف محترم و زوج و أب ؟
_ أقصد البلد ، و حياتنا السياسيّة ، لعلّك لا تهتم بذلك ؟
_ من بعيد ، كثيراً ما أرى من موقفي وراء البار المظاهرات و أسمع الهتافات ، و أرى عساكر البوليس و هم يطاردون الطلبة ، ثم تجيء اللوريات و عربات الإسعاف ، كثيراً .. كثيراً ، لماذا أنتم عصبيّون هكذا ؟
_ بلد تعيس الحظ يا فاسيليادس .
_ هكذا السياسة في كلّ مكان ، عندنا في اليونان سالت دماء كثيرة . لا تحزن ، أين كنت أمس و أين أنت اليوم ؟ ، و ستشرب هنا نخب انتصارات قادمة و سوف أذكّرك ..
و لاحظ أنني هجرت مجلسي التقليدي إلى مقعد وراء البرافان الذي يفصل القهوة عن رُكن الشراب فقال :
_ ألاحظ أنّك تفضّل الاختفاء .
فضحكت عالياً و قلت :
_ ابني اليوم في سن الشباب و قد رأيته مرّة و هو يمر أمام القهوة في رفقة بعض الصحاب ..
_ عجيب أن يخاف الأب ابنه !
_ شد ما أعاني من الأبناء .
_ لماذا يا سيّدي و أنت رجل طيّب ؟
_ لا نكاد نتّفق في رأي أو ذوق و أشعر حقّاً بأني غريب .
_ و لماذا تريدهم على أن يكونوا مثلك ؟
_ على أيامنا ..
و لكنّه قاطعني :
_ أيام الترقيّات و العلاوات الموقوفة !
فلم أتمالك من الضحك و قلت :
_ إذن فأنت لا يزعجك تمرُّد الأبناء !
_ تعلّم منهم ! .. تعلّم منهم إن استطعت ..
و قصصت عليه ، حلماً زارني فيه الموت فقال :
_ لا تصدّق ، الموت لا يجيء إلّا مرّة واحدة ، و إذا جاء أعقبته سعادة كبرى .
_ ها أنت تتحدّث عمّا وراء الموت ..
فقال بثقة :
_ من أين أتيت ؟ . ألا يشبه الظلام الذي أتيت منه الظلام الذي ستذهب إليه بعد عُمر طويل ؟ ، و قد أمكن أن خرج من الظلام الأوّل حياة فما يمنع من أن تستمر الحياة في الظلام الثاني ؟!
_ البقيّة في حياتك في فاسيليادس ..
هتفت رغم ضعفي :
_ لا ..
فقال :
_ هكذا قلنا جميعاً ، لم نصدّق أعيننا و نحن نراه و هو يتهاوى وراء البار ، و قبيل ذلك بثوان كان يضحك و يتحدّث و هو واقف كتمثال ، و لكن بالله خبّرني كيف يمكن أن يموت رجل في مثل قوّته إلّا بضربة قاضية ؟! ”
نجيب محفوظ رحمه الله