بُناة العالم

حين ألف ستيفان زفايج كتابه الشهير بعنوان «بُناة العالم»، اقتصر في اختياره لهؤلاء البناة على عدد محدود من المبدعين هم هولدرلن وديستويفسكي وبلزاك، ولأن المركزية الأوروبية سبب متكرر لإقصاء حضارات شرقية وجنوبية، فإن أعظم المبدعين من تلك الحضارات يغيبون، رغم أنهم ينابيع رؤى ولهم أدوار مشهود لها في الدفاع عن حق الإنسان في البقاء وترسيخ منظومة من القيم التي بدونها يصبح التاريخ مُتوحشا، ويكون الاحتكام الوحيد للقوة فقط، وإذا كان زفايج قد تحدث عن بناة العالم فقط، فإن لهذه الظاهرة وجها آخر هو من سعوا إلى تهديم العالم أو ما يسميه أمين معلوف اختلاله، وفقدان البوصلة بكل أبعادها الفكرية والأخلاقية والسياسية.
ويذكرنا كتاب زفايج بقول مأثور نقش في عقولنا منذ الصبا، هو من جدّ وجد، لكن ما انتهى إليه هذا العالم بعد أن توحش وأصبح فيه كل شيء مُتاحا ومباحا، كما قال ديستويفسكي هو من هدّ وجد، فالجنرال يسطو على الفيلسوف، والأمي يتولى التبشير بما لديه من فائض الجهل، ومن يتبقى على قيد آدميته متشبثا بجمرة الحقيقة، يوصف بأنه رومانسي وعاجز عن التأقلم مع عصره، لأن عليه أن يكون ذئبا كي لا تأكله الذئاب.
وستيفان زفايج مؤلف رواية «اربع وعشرون ساعة في حياة امرأة» كانت له رؤى لا تندرج في خانة المألوف، ففي هذه الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي تقيم البطلة علاقة مع أصابع لاعب روليت عن بُعد، وتجازف بمغامرة لم تزد مدتها عن يوم واحد بتغيير إيقاع حياتها الرتيب كزوجة وأم، لكنها أخيرا تنفض عن جسدها غبار تلك المغامرة، ولأن زفايج كان مهجوسا بسؤال الوجود، رغم أن اسمه لا يرد في قائمة الوجوديين من طراز كيركيغارد وغابرييل مارسيل، انتهى إلى الانتحار وكان انتحاره من طراز فريد، لأنه حدد موعده ولم يتراجع، وانتحرت معه في اللحظة ذاتها زوجته، وكان ما كتبه عن بُناة العالم أصبح في النهايات أمرا مشكوكا فيه.
وحين نتصفح التاريخ البشري منذ بواكيره، حتى أيامنا العجاف، نجد أن هناك جدلية أبدية بين من يبني ومن يهدم، ومن يعطي ومن يأخذ ومن يشعل النار ومن يطفئها حتى لو كان الأمر رمزيا ويعبر عن النوايا فقط، كما في الحكاية السليمانية عن الضفدع الذي يحاول إطفاء الحريق، والحرباء التي تواصل الفحيح لإشعاله، وأحيانا يتساءل البعض كيف لم تستطع تلك السلالة من الفلاسفة والمبدعين والحالمين باليوتوبيات، على امتداد التاريخ، تحرير هذا الكوكب من شروره، وللإجابة عن سؤال إشكالي كهذا لا بد من الخيال، كي نتصور العالم خاليا من هؤلاء، وما الذي كان سيؤول إليه بدونهم؟ فالمسألة ليست معادلة براغماتية، بحيث يشترط من يدعو للسلام على العالم أن يمتثل لطروحاته، وهو على قيد الحياة، ومثقفو اوروبا وشعراؤها وفنانوها لم يستطيعوا أن يحولوا دون اندلاع حربين عالميتين حوُلتا مدنا عريقة إلى أطلال، وملايين النساء إلى أرامل وأضعاف هذا الرقم إلى أيتام.
هؤلاء فعلوا ما استطاعوا، بالقلم أو الريشة واللوحة أو الآلة الموسيقية، ولم يكن ما حاولوه أضعف الإيمان، إلا بمقياس جنرالات ساديين وساسة أصابتهم النرجسية بالعمى.
أذكر أن هنري ميلر قال أثناء إلقاء محاضرة حين مرّت دراجة نارية وطغت بصوتها الصاخب على صوته: لقد صنع الإنسان بيده ما هو أقوى منه، وإذا كان ضجيج دراجة نارية يفرض علينا الصمت حتى تمر ويتلاشى الصدى، فماذا نحن فاعلون إزاء أسلحة نووية تدمر هذا الكوكب بكل ما فيه من متاحف ومعابد ومعارض ومكتبات عدة مرات.
والأرجح أن جدلية البناء والهدم لا تسير لصالح من اختاروا البناء، لأن ما يجري في مطالع الألفية الثالثة من مجازر ومقابر جماعية وتشريد لمئات الملايين، ينذر بأن هناك تاريخا آخر سوف يعقب هذا التاريخ، لكن ليس بالمعنى الذي أراده فوكوياما، الذي ما أن فرغ من نعي التاريخ حتى فوجئ بقيامته، ولا أدري لماذا لم يتوقف فقهاء المابعديات، بدءا مما بعد الحداثة وما بعد الفلسفة وما بعد الإنسان عندما بعد التاريخ، فالتاريخ كما صورته أسطورة إغريقية عجوز ثرثارة اسمها هاكوبيا، كانت تطل برأسها على المسرح لتقاطع الممثلين على الخشبة.
إن تدمير آثار عمرها آلاف السنين وتحويل متاحف إلى رماد واستباحة مساجد وكنائس في مطالع هذه الألفية العجفاء، كما يلوح من بواكيرها لم يتم جزافا، بل حاول محترفو الهدم تسويغ جرائمهم بمرجعيات بعد أن أعادوا إنتاجها وحوّلوا تأويل النصوص إلى تقويل تعسفي على طريقة قاطع الطريق اليوناني بروكوست الذي كان يمط أجساد ضحاياه أو يبترها تبعا لمساحة السرير الذي يمددهم عليه.
إن عبارة من هدّ وجد التي أوشكت أن تكون البديل للقول المأثور من جدّ وجد هي من إفراز ثقافة ذات فحيح، وأقصى ما تبشر به هو جعل هذا الكوكب المنكوب مكانا غير صالح للإقامة البشرية.

خيري منصور

About سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

Check Also

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …