البعض يقول بأن من يمارس العزلة هو شخص لديه أعراض نفسية، وأنه يريد الوحدة لأنه لايحسن العلاقات الاجتماعية ولا يجيد المشاركة الجماعية لأنه ليس لديه مهارات في ذلك أو أنه لايرغب في المشاركة، ولكن ما أتكلم عنه هو العزلة الإيجابية وهو أن تنشغل في تطوير نفسك كل يوم، وتطور من معلوماتك وقدراتك وتصحح أخطاءك من خلال الإيمان والقراءة، والتعلم والتأمل العميق يساعدك في محاورة نفسك ومراجعتها في أمور كثيرة،وهذا ما أقسم الله سبحانه تعالى به وقال” لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة”
وقال مالك بن دينار:” رحم الله عبداً قال لنفسه:ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله – عز وجل – فكان لها قائداً.”1
وقال ميمون بن مهران: “لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.”2
لذلك الإنسان حينما يعتزل و يخلو بنفسه ويحاسبها فكأنه يجلو عن جوهرة ثمينة الغبار، وبذلك يحصل المعتزل على الوضوح لدرجة الصفاء و الجمال وراحة البال ويشبع الروح بماتريده من غذاء روحي من خلال صقلها بالتأمل والأمل والتفاؤل وذلك بقراءة القرآن والكتب في شتى العلوم فيكون مبدعاً فتصبح العزلة هنا مفيدة ويرتقي بها الشخص دينيا ودنيوياً
ومفيدة أيضاً في البعد عن القيل والقال والغيبة والنميمة وأذية الآخرين، فأنت حينما تدخل في عالم العزلة فأنت لاتجعل عالمك محدوداً كما يعتقد البعض ،ولكنك تتواصل مع عالم أوسع بكثير من عالم الناس، فالعزلة تحرر النفس من الوقت وتبعدك عن عالم القطيع بدون أن تنشغل في العالم الخارجي، فتقوى عندك حالة التأمل ويصبح لديك بصيرة ،وتجعلك أكثر شفافية وإنسانية لكي تصبح مستعداً لتفهم الحياة أكثر، وأن تكون واقعياً وتصبح أكثر تعاطفاً مع الآخرين، فإن بعض الأنبياء والصالحين والعظماء قد دخلوا في عزلة، لأنها تهيء لهم طريقاً إلى عالم جديد لم يكونوا يعرفونه من خلال فكر جديد ونظرة شمولية أكبر من عدة زوايا ومحاولة جعل هذا العالم أكثر أماناً للإنسان، وعن أبو الدرداء رضي الله عنه: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكير خير من قيام ليلة والقلب ساه.وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله عز وجل حسن والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال لقمان الحكيم: إنّ طول الوحدة ألهم للفكرة وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة.فمن خلال العزلة نتعرف على الله أكثر من خلال التأمل التدبر في مخلوقاته وفي السموات والأرض والمخلوقات والتي بينها الإنسان نفسه،فجسم الإنسان مثلاً يتركب من خلايا يقارب حجم كل واحدة منها جزءاً من ألف جزء من المليمتر المكعب فمن مجموعة معينة من هذه الخلايا تتكون عظامنا ، ومن مجموعات أخرى تتكون أعصابنا وكبدنا ، والبنية الداخلية لمعدتنا وجلدنا وطبقات عدسات عيوننا،وتملك هذه الخلايا الخواص والصفات الضرورية من ناحية الشكل والحجم والعدد لأي عضو تقوم بتشكيله هذه الخلايا في أي قسم من أقسام الجسم .
فخـلايا الجسم التي تكلفت بقيام مهماتها من وظائف مختلفة ، والبالغ عددها تقـريبا ” مائة تريليون خلية “نشأت وتكاثرت من خلية واحدة فقط ، وهذه الخلية الواحدة والتي تملك نفس خصائص خلايا جسمك ، هي الخلية الناتجة عن اتحاد خلية بويضة والدتك مع خلية نطفة والدك، فهذا الإنسان المكون من عدة كيلوات حسب حجمه ، وكبر عظمه ، ووفرة لحمه تجمع هيكله بأكمله من خلال قطرة ماء واحدة.
فمن خلال العزلة نحن نتعلم أشياء كثيرة، وثم نقول لأنفسنا بعدما اكتشفنا هذا العالم لماذا نحن محرومون منه؟!، ونلوم أنفسنا ونقول لماذا كنا بعيدين عن هذا العالم الجميل ؟! ويقول تشارلز يوكوفيسكي”أقوى الرجال هم الأكثر عزلة، لا شيء في الخارج سوى مصنع كبير للحماقة، واختلاط الحمقى بالحمقى، هذا كل ما في الأمر.” ويقول الدكتور مصطفى محمود رحمه الله ” إن الخلوة مع النفس تهذيب لها، ومراجعة عقلية لما يمر بالمرء من تجارب يومية، إذا أحسن المرء ترك ما يشغله وروّض نفسه على التأمل والهدوء وهي من أفضل الوسائل لإفراغ الضغوط من النفس وتحفيز الخيال وإنعاش العقل ما ينعكس حتى على الصحة العامة.”
وقال إبن سيرين ” العزلة عبادة”
وقال أديسون ” أفضل التفكير يكون في العزلة و أسوأه مايكون في الزحام.”
وكما قال الفضيل بن عياض” ماأجد لذة ولا راحة ولا قرة عين إلا حينما أخلو في بيتي .”
وقال الشاعر الحميدي:-
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً
سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا
لأخذ العلم أو إصلاح حال
سلمان محمد البحيري
1،2كتاب أحياء علوم الدين