أدب الخيال العلمي

إذا أردنا أن نكتب “أدب الخيال العلمي الصحيح” علينا أولا أن نبعث الإهتمام بالمستقبل
أيُّ نوع من أدب الخيال العلمي الصحيح نحن في حاجة إليه اليوم؟ يبدو لي من خلال قراءاتي في الحقلين الفكري والأدبي أن الإنسان العربي بشكل عام، والجزائري بشكل خاص، لا يحمل أي اهتمام بالمستقبل، ولا يكلف نفسه بناء تصورات عنه، يحاول من خلالها رسم صورة احتمالية لما يمكن أن يكونه المستقبل، استنادا إلى معطيات الحاضر السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية، وإنما تسيطر عليه عقيدة الانتظار والفهم السلبي للغيب. ومن ثم لن تجد في مخيال العربي شيئا يمكن أن يكون مدعاة لبناء سرد حكائي يتجاوز خط الحاضر ليطل على المستقبل، على الرغم من أن الدين يحمل في شطر واسع من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، صور هذا المستقبل الذي يجب علينا أن ننظر إليه بتمعن، وأن نستعد له استعدادا ماديا ومعنويا، وإذا أردنا التمثيل فقط وقفنا أمام الأحاديث التي تناولت خبر المسيح الدجال.
ثم قررنا في أنفسنا أن هذا الخبر غيب، وأنه آت لا محالة، وأنه سيشكل تحديا للذات المؤمنة والكافرة على حد سواء. وأن مروره سيكون تحولا جذريا في حياة البشرية كلها، وأن رؤية الناس للحياة والممات والآخرة بعد ذلك، ستتغير بعيدا عن الفلسفات والتخمينات وغيرها مما نعرفه اليوم من ألوان التفكير. هذا الخبر على الرغم من فداحة خطبه، لم يتناوله أحد من الكُتاب أدبيًا، ولم يستثمره في عمل سردي يتجاوز الحاضر ليرتمي به في المستقبل محاولا رصد أحوال الناس في تلك الفترة الحرجة التي يمتحن فيها الناس كلهم جميعا. بل تركنا الخبر في يد رجال الدين يقدمونه باعتباره إشارة من إشارات الساعة، يُرفع على المنابر أو يُسطر في كُتب الوعظ والإرشاد. نحن ندرك اليوم أن البشرية تُساق نحو حكم توتاليتاري متسلط يكون في يد رجل واحد، وأن الحروب الحاصدة على الأبواب، وأن الفتن والقلاقل قد بدأت، وأنها لن تنتهي بصلح أو هدنة، أو غيرها مما يعرف الناس اليوم. وإنما ستنتهي بالحالقة، وأنه من الواجب علينا أن نجلس لنتدارس هذا الخبر في المخابر الإستراتيجية، وفي جلسات الساسة، وفي حلقات التفكير العلمية، لنرسم سيناريوهات المواجهة والاستعداد، وإلا سيعصف بنا الحادث عصفا لن تقوم لنا بعده قائمة.
في إمكان الأدب أن يقوم بهذه المهمة، فينقل الخبر من مجاله الديني إلى المجال الأدبي، ليصنع منه سيناريو يتمتع بالاحتمالية التي تثير اهتمام القراء، وتحفزهم على التفكير العميق في المسألة، لقد كنت منذ مدة أفكر في حديث يتعلق بالفتن، يقول: “سَتُصالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أنْتُمْ وهُمْ عَدُوًّا من ورائِهِمْ، فَتَسْلَمُونَ وتَغْنَمُونَ، ثُمَّ تَنْزِلونَ بِمَرْجٍ ذِي تُلولٍ فَيَقُومُ رجلٌ مِنَ الرومِ فَيَرْفَعُ الصَّلِيبَ، ويقولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ! فَيَقُومُ إليهِ رجلٌ مِنَ المسلمينَ فَيَقْتُلُهُ، فيغدرُ القومُ، وتَكُونُ المَلاحِمُ، فَيَجْتَمِعُونَ لَكُمْ فيأتونَكُمْ في ثَمانِينَ غَايَةً مع كلِّ غَايَةٍ عشرَةُ آلافٍ. (الراوي: ذو مخبر الحبشي المحدث: الألباني المصدر: صحيح الجامع الجزء. الصفحة 3612 حكم المحدث: صحيح.”) وكنت أسأل نفسي متى يكون الصلح؟ وكيف يكون؟ والروم كلمة تدل على الغرب “النيتو، أمريكا، وحلفائها” والعدو الذي يكون من وراء، هم ولا شك “الروس، وإيران، والصين”. ثم فجأة، ها هم الروس يتحالفون مع إيران ويدخلون عسكريا إلى سورية، ويضعون أمريكا وإسرائيل والنيتو في حرج وقلق، وخوف. وأن المطامع الروسية لن تتوقف على حدود الشواطئ السورية، وإنما ستتوغل لملاقاة القوات الإيرانية نحو الشرق، وعندما تتعقد المسألة، وتنعدم سبل التواصل بين الشرق والغرب، ويصطلم الصدام. ثم يحدث أن تتصالح ما يسمى بقوى المعارضة السورية ومن يساندها مع الروم، وحينها سيتحقق الحديث الذي بين أيدينا، ويكون الصدام في حرب خاطفة لا تُبقي ولا تذر، تبدأ بعدها الملاحم.
لو كان للعربي أدنى اهتمام بالمستقبل لعكف على مثل هذه الأخبار والأحاديث التي تحقَقَ من صحتها، ينظر فيها بمرآة الحاضر ليبني منها سيناريوهات المستقبل، بناء يبتعد بها عن التكثيف الذي يوجد في الحديث والخبر، إلى البسط الخيالي الذي يمكن أن يؤثث الفراغات التي تصنعها ظلال الأحداث، ومن ثم سيقدم الأدب: أدب الخيال العلمي، مساهمته في إنارة جوانب من الحاضر والمستقبل.
لننظر الآن إلى السينما الغربية كيف تستثمر نصوص الكُتب المقدسة والخرافات وحتى الرسوم الكرتونية القديمة لتعيد بعثها من جديد، غير أننا ونحن نتابع هذه الأفلام فاغرين أفواهنا يفوتنا دوما الالتفات إلى المصادر التي تغترف منها مادتها وتبني منها مخيالها. وكل ما فعلنا نحن أننا توقفنا عند ألف ليلة وليلة، وحكايات شهريار وشهرزاد، ولم نبرحها شبرا واحدا ونحن نعلم أن المخيال الذي نسجها مخيال شرقي مغرق في شرقيته.
لقد قرأت يوما أن المستقبل ليس قضاء حرفي مكتوب، وإنما يستطيع أحدنا أن يغير من هذا المستقبل إذا صمم على ذلك، فقول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} “الأنفال: 60” أو: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} “الرعد: 11” فيه إشارة إلى إمكانية تغيير الموازين والنتائج، كما أن الدعاء يرد القضاء، وبين الإعداد، وإرادة التغيير، والدعاء، إشارات رمزية تتدرج من الفعل الذي يؤثر في المادة واستعمالاتها وبين الدعاء/الهدف الذي يصبو إليه المبادر. ومن ثم صار المستقبل شبكة من الإمكانات التي يمكن تحقيق بعضها وتجاوز بعضها الآخر.
فإذا أردنا أن نكتب “أدب الخيال العلمي الصحيح” الذي يساهم في تنوير الحاضر وبناء المستقبل، علينا أولا أن نبعث الاهتمام بالمستقبل في عقول الناس، وأن ننزع منها فكرة الغيبيات التي يجب انتظارها، والمبادرة إلى بناء فكر متوثب يعرف كيف يستفيد من نصوصه الدينية التي أزاحت ستائر الغيب من أمام ناظريه، وكشفت عن المستقبل في دنياه وفي آخرته، فلا أحد ينكر أنه يعرف كل ما سيحدث في القريب العاجل وفي البعيد الآجل إلى غاية أن يدخل أهل النار، النار. وأهل الجنة، الجنة.

الكاتب والناقد الجزائري حبيب مونسي

About سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

Check Also

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …