العابر المميز

الجزء الأول

في أجواء ربيعية جميلة ، كانت الغيوم تسح هتاناً بالمطر وأصبح هناك مساحات خضراء واسعة وأحياناً تكون على مد النظر في بعض الأماكن، إنه موسم أمطار قد جاء برحمة من الله في وقته بالوسمي  لتزهو الوديان والهضاب والجبال بالزهور والأعشاب ولترتوي الأشجار لتغري الطيور بأنواعها لكي تحط عليها أو تسكنها فخرجت أنا و خالد  في نزهة برية سوياً ومعنا أغراضنا وخيمتنا والتي نصبناها هناك بالقرب من هيت، فسألني خالد: سلمان ماذا يعني لك هذا المكان ؟! حينما رآني اتأمل المكان كثيراً وهناك دموع في عينيي فسكت برهة ثم قلت : برغم أنها أجواء رائعة وجميلة ولكنها تذكرني بعمي إبراهيم حيث كانت نهايته هنا منذ أربعين سنة حينما كنا مخيمين في الإجازة مع جدي عبدالعزيز ووالدي محمد وعماني وعماتي وخالي وأبنائهم في أجواء مثل هذه في هذا الوادي الفسيح، فهل الذي ذكرني هو هذا المكان، أم هذه السحب والأمطار ،أم هذا الربيع الجميل، في هذا الوادي هناك تحت سفح الجبل أراد الله بأن تسلم روحه لبارئها عز وجل ليرحل بعدها بفترة قصيرة حيث كان على الفراش في بيت جدي وكان يرعاه ودوماً إلى جانبه في الفراش بالمجلس حيث وصل إنهيار صحته بأنه لايستطيع أن ينقلب على جنبه وأصبح ضعيفاً كالهيكل العظمي ولكنه حينما تعب في البر سرعان مانقلناه إلى مستشفى العزل القريب من هنا في الخرج،آه ياخالد ما أصغر هذه الدنيا لقد أعادت مابداخلي لشريط الذكريات المؤلمة،بعد ماظننت أن غيوم الحياة قد غطتها،لقد عبر عمي إلى العالم الآخر،ولكنه ليس كأي عابر لأنه كان عابراً مميزاً، ياخالد لأنه كان سابق عصره من الشباب الذين كانوا في عمره أو من هم  أصغر منه بثقافته وفكره وأناقته، حيث كان لديه مكتبة خاصة في البيت وكان موهوباً في الرسم والخط الجميل والصيد وكانت مكتبته منوعة وقيمة حيث بإستطاعتك أن تجد الكتب الدينية والأدبية والفلسفية والطبية وكان أنيقاً ووسيماً حيث كان يلبس البنطلون والقميص في المنزل أحياناً وكان يلبسها دوما في الرحلات البرية،وهذا اللبس في ذلك الوقت يعتبر عيب لأنه ليس من العادات والتقاليد، كما أنه كان صياداً ماهراً لدرجة أنه كان يصيب الهدف المتحرك السريع بدقة وحتى لو كان طائراً ولقد شارك في بعض مسابقات رمي القرص الطائر الدولية، فقد كان واثقاً في نفسه وباذخاً في ثقافته وأسلوبه ولديه سعة أفق،وكان إذا سافر للخارج يحضر بعض الأحيان الفعاليات الثقافية هناك في الكويت والقاهرة وبيروت ويحضر معه أحياناً كتباً لكي يستمتع بقراءتها وكان عمري حينها عشر سنوات ، فكنت بعض الأحيان أستعير من المكتبة المدرسية بالمدرسة قصص من إصدار المكتبة الخضراء مثل قصة سندريلا وليلى الحمراء والذئب وغيرها حيث أقرأها بعد مذاكرتي وحل واجباتي المدرسية وكان يلاحظ إهتمامي بذلك، فنادى علي مرة وأعطاني رواية أحدب نوتردام وقال: إقرأها جيداً وأستمتع وإذا فرغت منها أرجعها لمكتبتي فقلت له: شكراً ياعمي. وبعدما فرغت منها بعد عدة أيام أرجعتها للمكتبة وقد لاحظت أن مكتبته كانت تزخر بالكتب القيمة.

الجزء الثاني

ولاحظت بعض الأسكيتشات بالرسم وبعض الأوراق كان عليها خط جميل بالقلم الحبر والذي كان يفضل حبره باللون الأزرق اللازورد وكان هناك بعض التحف من تماثيل فرعونية ذهبية وبعض الأطباق النحاسية المنقوشة وكانت بندقيته الشوزن قد وضعها على المتكأ الخاص بها على الجدار ويوجد على الأرض الكنبات المدورة الجلدية ذات الألوان الجميلة والتي عرفت بعدما كبرت بأنها من خان الخليلي ، ثم لاحظت جهازاً به أسطوانه وهو مايعرف بالبكم أو البشتخته الذي يشغل بواسطته الأسطوانات وكان يحب أن يسمع موسيقى هادئة وبعض من فناني الفن الأصيل في ذلك الوقت مثل أم كلثوم وعبدالحليم وفيروز وكان رحمه الله من أجمل أخوته وبل في عائلته وكان مميزاً فكرياً ولديه أسلوب رائع مع الصغير قبل الكبير، فقال خالد: فعلا إن رجلاً بهذه المواصفات في ذلك الوقت يعتبر مميزاً،وعسى جاء له أولاد مثله؟!
فقلت: إن لذلك قصة فقد عاش مع زوجته لمدة 12 سنة برغم أنها عقيم ،وقد فعل السبب بالعلاج الشعبي وسافر بها لخارج المملكة ولكن لا أتذكر بالضبط إلى أين ولكنه لم ييأس من رحمة الله ولم يطلقها أو يجرحها حتى صارت بنفسها تلح عليه بأن تزوج لكي يأتيه ذرية وبعد إلحاح مستمر وافق على أن تخطبها هي له ،وتمت الخطبة ومراسم الزواج وبعد فترة حملت زوجته ثم ولدت بنت وسماها هند ولكن لم تكتمل فرحته بها ، حيث كان القدر له موعد معه بالرحيل فكان رحيله في رحلتنا البرية التي كانت هنا وكانت آخر رحلة مع العائلة ،لأنه كان الأيقونة والمايسترو بها وقد كانت تقول عنه زوجته نوره:” إن إبراهيم كان يشعرها بأنها أجمل امرأة على وجه الأرض وأنني الأنثى الوحيدة في هذا العالم التي تستحق حبه،كما أنه كان بالنسبة لي هو الرجل الوسيم الوحيد في هذا العالم فقد منحني الحب والتضحية وقد كنت الوحيدة في عالمه بالرغم أن هناك بعض النساء من أقاربه أو الغرباء كان محط اهتمامهن ، فقد عشنا معاً على الحلوة والمرة أجمل الحياة وقد ترك لي بعد رحيله إرثاَ جميلاً من الذكريات الرائعة التي قد عشناها معاً ولو أعاده الله للحياة مرة أخرى فلن أختار إلا إبراهيم، ولكن سعادتي لم تدم معه طويلاً ليس لأنني قد قلت له تزوج ولكن لأن الله أراد بأن يخطفه بالسرطان مني ،وهو لايزال في ريعان شبابه، ولقد شعرت من بعده بالضياع ولقد تقدم لي الكثير من بعده ولكن لم يملأ عيني أحد من بعده لأنه لايوجد في قلبي سوى إبراهيم أما زوجته ساره فقد كانت علاقتي معها جيدة وكنت أعتبرها ولازلت أختاً وليس كضرة، كما مما زاد الألفة من بيننا هو بنته هند التي لم ترى أبيها فهو عندما رحل كانت طفلة رضيعة في المهاد ذات شهور” فقال خالد ماذا كان عمك إبراهيم يصنع في البر؟!،

الجزء الثاث

كان ياخالد يصطاد الطرائد من حمام وحجل وأرانب في بعض الأحيان وكان يرتدي لبس الصيد مع كاب ونظارة شمسية والبندقية على كتفه،وكان إذا أصطاد الطرائد يقوم أحيانا بطبخها أو شويها وقد تعلمنا منه كيفية نتف ريشها وغسلها وتنظيف مابداخلها وكان يطبخ أحيانا في كرشة الخروف بعد تنظيفها ويحشوها بعض الخضار والبهارات وبعض قطع اللحم وأحيانا بدل اللحم يطبخ بداخلها الكبده ويكون طعمها جميل،وأما إذا أقام وليمة لأقاربه وأنسباءه في بيت جدي فكنت أذكر حينما كنت صغيراً كان عمي إبراهيم إذا عزم في بيت جدي يمد سماطين بنية طويله جداً في وسط بطن الحوي ” البيت ” وعليها مأكولات القليل في ذلك الوقت من يعرفها،حيث كانت زوجته نوره تعد أطباقاً من المأكولات بمساعدة والدتي وبعض عماتي مثل الحمام والعنب وأنواع المحاشي والمشاوي وكنا في النهار بالبر نلعب كرة قدم وطائره وفي الليل نلعب الحبشه وعظيم سرى وطاق طاقيه ويلعب الشباب الكبار البلوت والكنكان وأحيانا نغني سامري حيث نسخن الطيران على النار وجدي عبدالعزيز هو الذي يشيل ويتغني بالقصيدة وأبي وأعمامي وخالي محمد من جهة جدتي والشباب الذي أكبر منا يردون خلفه وكنا نحن الأطفال نتعلم مهم وكيف نرد سوياً ككورال، وعند وقت النوم ننام في الخيام ونستيقظ على صوت جدي عبدالعزيز وهو ينادي علينا ويؤذن لصلاة الفجر ثم يوقظنا جميعا وبعد الصلاة أعود ولآخذ لي سنة من نوم على صوت العصافير وحفيف الهواء من خلال الأشجار والجبال ويجعلني أشعر كأني أحلق فوق الجبل هناك،

الجزء الرابع

وحينما كنا نلعب صباحاً على تلك الهضاب وتحت الجبل  فقد جعلنا الفضول نصعد للجبل ، وحينما أصبحنا في أعلاه  ونظرنا للأسفل، فتجد أن الربيع ينظر إليك مختالاً في زهوه وجماله من خلال المنحدرات المسطحة الخضراء وترى جميع الأنعام ترعى هناك وهي سعيدة والرعاة يقومون بالحداء طربين لهذه الأجواء ولأن أنعامهم تشبع وسعيدة، وبعدها نزلنا من الجبل حينما رأينا الجو قد إكفهر بالغيوم ثم دخلنا الخيام وبعدها بلحظات أخذ المطر يهطل بغزارة ، ثم أخذت روائح زهور الأعشاب من النفل والرمث والخزامى تفوح في كل مكان،ثم بعدما توقف المطر كان هناك قوس قزح يخطف القلوب بتدرجات الألوان بدأً من الأصفر والأحمر والبرتقالي والأزرق إلى اللازورد وبعدها أطلت الشمس على إستحياء بعد إنقشاع الغيوم ،وأخذت أشعة الشمس الذهبية تنعكس على أحواض الماء التي خفلها المطر في كل مكان ، إنها مناظر تأسر الألباب ولا يستطيع أي رسام محاكتها أو أديب وشاعر أن يصفها، فلذلك ياصديقي الدنيا لا تمنحنا الشيء الجميل دائماً، لهذا يجب علينا بأن لا نبخل على أنفسنا بالسعادة ولا نقسو عليها،بل أن ندللها ونمنحها الشيء الكثير من الإيمان والثقة والأمل والتفاؤل والخيال والمكافأة في بعض الأحيان، فهذه الأشياء هي التي تجعلنا نتحمل مصاعب الحياة والآمنا، وتنسينا الموت لفترة، وحتى إذا جاءنا الموت فهي تخففه علينا،صحيح أن عند الموت سيبكيك الكثيرون الذين يحبونك ويأتوا إلى عزائك ،وعندما ينفض مجلس العزاء سيبدأ ذكر أسمك بالخفوت لديهم شيئاً فشيئاً عند محبيك وأقربائك حتى يختفي ذكرك عند الغالبية العظمي وكأنك لم تكن ، لأن هذه الدنيا بلا ذاكرة ولأن الناس سينشغلون بهمومهم ولن يبقى معك إلا الله ثم عملك الصالح وماقدمته من صدقات جارية،ولحظات جميلة عشتها مع الآخرين, فهم سيذكرونك بها ويدعون لك مابين وقت وآخر فهناك ياخالد في ذلك المكان قد توقفت سيارته لأنه كان متعباً لدرجة الإنهاك ولم يخبرنا بذلك لكي لايفسد فرحتنا بطلوع البر وجاء على نفسه وذهبنا للبر ولكنه بعدما وصلنا سقط مغشياً عليه وقد نقله أبوي محمد مع جدي إلى مستشفى العزل في الخرج، ولم يدركوا بأن زيارتهم هذه للمستشفى ستكون هي الزيارة الأخيرة وقد قال الدكتور لوالده ولأخوه بعدما إنتهى من الفحص: لاأستطيع أن أعمل له شيئاً فهو إن أستطاع أن يصمد ستة شهور فهو بطل لأن مرض السرطان قد تمكن منه،فوالده وأخوه قد تقبلا الأمر ولكن على مضض وقال جدي لوالدي علينا العودة للرياض. وكانت أقصر رحلة للبر لأنها كانت مؤلمة وصادمة ،وكانت آخر رحلة جماعية مع الأقارب إلى البر.
سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …