الحياة في المزرعة

عاصرت الحياة في المزرعة منذ أن كانت أرض جرداء وقرر جدي عبدالعزيز وأبوي محمد رحمهما الله حفر البئر و العمل لزراعتها والإنفاق عليها حتى تم إحياؤها وتغذيتها ب” الغريف” والرمل والسماد وتقليبها وتخطيطها كجداول لمرورالماء وأحواض للزراعة وغرس الأشجار والحيش بعد فترة حتى إزدانت بالزرع و النخيل والشجر والجداول والأحواض الزراعية “الأشراب ” وكنت متابع مراحل الزراعة منذ أن يكون بذرة حتى يكون زرعاً مثمراً يبهج الناظرين أو فسيلة صغيرة وحيشة نخل صغيرة حتى تكبر وتصل لمراحل قطاف الثمر، قد كانت من أجمل التجارب في حياتي وأكثرها بساطة برغم أنه لم يكن هناك الكثير من الكماليات المرفهة هناك، بل حياة بسيطة وكانت قليلة الموارد في البداية، فالحياة في المزرعة يوجد بها المغامرة والتعب والتحديات والمصاعب، ولكن العيش في الحياة الريفية تجعلني مستمتعاً بكل صغيرة وكل شيء بسيط وأكون متأملاً في قدرة الله و تجعل ذهني صافياً وخاصة عندما أصحو للقيام لصلاة الفجر وأتأمل كيف يأتي الصباح ويبدأ النور بالظهور تدريجياً ثم أراقب أشعة شمس الصباح تطلع على إستحياء،  تطل على هذا المكان الرائع بخيوطها الذهبية ويسود الأجواء جمال و هدوء مطبق، لا مرور للسيارات أو الشاحنات والطائرات إلا ماندر، ولا أي صوتٍ آخر، فقط أصوات  الحيوانات والطيور والهواء والمطر والبرق والرعد إذا كان في فصل الشتاء، حيث تمتلئ نفسي في الصباح بهجةً وحبورًا هذا أفضل وقت من النهار على الإطلاق، وأحرص بأن أنوم باكرًا للإستيقاظ باكراً هي عادة اكتسبتها منذ أن أنتقلنا من الرياض إلى المزرعة،وهذه واحدة من أفضل العادات التي إكتسبتها من العيش في الريف وأكثرها نفعًا على حياتي، فلا صفاء ولا روعة ولا حب كما هو الحال مع هذه الساعات الأولى من النهار، حتى الساعة العاشرة صباحاً هذا في الصيف أما في الشتاء والربيع فتكون المتعة باليوم كاملاً بصباحه ومساءه ، فقد كنت أشعر بأن عيش هذه التجربة الصباحية بتفاصيلها جزء ضروري في حياة بسيطة مصدر سعادة لي ، لأنها تفيض معاني من السعادة حيث الإيمان والأمل والتفاؤل والشغف والإنتاج، لذلك أعتبرها جزءًا أساسيًا في رحلتي نحو العيش ببساطة، فقد إنعكس نظام الحياة في المزرعة على كل شيء فيني، وعلى كل شيء أقوم به ، فاكتشفت بأن الإستيقاظ فجرًا يمنحني طاقة صحية وطاقات إيجابية ويرفع معنوياتي حيث يجعلني متناغماً مع من حولي و الكون، حيث من تشرق الشمس باكرًا، يتبعها كل ما على الارض، من طيور وحيوانات، إلا الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتخلف عن ذلك، كما أشعر بالإنتعاش لأن أعلى نسبة لغاز الأوزون تكون عند الفجر، وهذه النسبة تقل تدريجيًا مع طلوع الشمس، وهذا الغاز منشط فعّال للخلايا العصبية، الاستيقاظ فجرًا يعني ذهن أقوى، كما أن أكبر نسبة من الأشعة فوق البنفسجية هي في لحظات الاشراق، وهذه الأشعة هي التي تحرّض الجلد على صناعة الفيتامين (د) المسؤول عن ثتبيت الكلس على العظام، الاستيقاظ فجرًا يعني جسم أقوى، فعدم استيقاظي لصلاة الفجر وعدم انتظاري لظهور نور الصباح وأشعة الشمس الذهبية وثم تفويتي لفرصة إستنشاق للهواء النقي فهذا يعني خسارة فادحة حقيقية لي، فالإستيقاظ فجرًا يضبط ساعتي البيولوجية وعلمتني الحياة في المزرعة أشياء كثيرة منها التنعم بروعة الصباح، الإشراق، أصوات العصافير، الهدوء المطبق، جمال السماء، إستنشاق الهواء النقي ، الصبر والأمل والتأمل ، والإستمتاع بخيرات المزرعة الطبيعية من خضار وفاكهة و حليب و لحم وعسل ،كما كنت أشعر بأن إيقاع الحياة في المزرعة أبطئ، مما يعطيني احساسًا قويًا بإلاستمتاع أكثر بالوقت، مقارنة بالعيش في المدينة حيث نعاني من سرعة الوقت والأيام في نهارنا ويومنا وأن كل يوم مثل الآخر والشعور بالطفش والملل،وعدم احساسنا بالمتعة، والسبب في ذلك أننا نحيى وفق إيقاع سريع للغاية، بين الاستيقاظ والذهاب للمدرسة و الجامعة أو للعمل والزحام والتلوث والإزعاج و رتم الحياة السريع ، ثم بعد أن يخرج النور تعد أمي أو جدتي رحمها الله القهوة والأفطار حيث نحرص على أن نرتشف منها مع تمرات قبل الذهاب إلى العمل في المزرعة إذا كان هناك إجازة من المدرسة وأما إذا كان هناك دراسة فإننا من بعد أن نتناول القهوة والأفطار نذهب للمدرسة، فتذكرت حديثا للرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال ” (بورك لأمتي في بكورها)، وقول ميخائيل نعيمه أحب إليّ روح نظيفة في جسم قذر من روحٍ قذرة في جسم نظيف،وأحبّ إليّ من الاثنتين روح نظيفة في جسم نظيف، الأرض روح طاهرة في جسم طاهر،فلاصقوها بأرواحكم وأجسامكم إن شئتم أن تكونوا من الطاهرين!”وقول جوناثان «لستُ أعرف شخصًا وصل إلى العظمة والسمو، بينما يظل نائمًا حتى وقتٍ متأخر من الصباح» بل بعض من في المدن لا يصحو من نومه إلا بعد الظهر أو بعد العصر،لذلك لم تكن تجربة الحياة في المزرعة بالنسبة لي إختيارية، بل كانت اجبارية، وقد تعلمت منها الجلد والصبر والحلم وطول الإنتظار والأمل في الله ،وهنا كان التحدي بالنسبة لي فهذه كانت تجربة جماعية مع أهلي في مزرعتنا وعشتها بعيداً عن اليأس والتذمر أوعدم الرضا، ولقد كانت مشكلتي في البداية في المزرعة هو التأقلم مع حياة جديدة، ثم تأقلمت بالتدريج مع البيئة التي أعيش بها لكي أستمتع بها لأنني أشعر بأنني مسؤول عن ابتسامتي واستمتاعي في كل لحظة بهذه التجربة الرائعة بحق لأني كل يوم تمر بي أشياء أتعلم منها ولحظات أتأمل فيها في السماء والنبات والطيور والماء والتربة والجبال والمطر وفصول الربيع والشتاء والصيف والخريف ومواسم الزارعة فيها والحصاد وقد خرجت وفي جعبتي الكثير مما تعلتمه من جدي عبدالعزيز وأبي محمد رحمهما الله ،لقد كنت استيقظ الفجر بدون منبه وقد كان يسعدني صوت أذان الديك في الصباح وحديثه مع دجاجاته في القن، وقد كان لشروق الشمس وغروبها روعة هناك وصوت حفيف الأشجار و شجر الأثل والنخيل وصوت ماكينة البلاكتسون التي تدفع الماء من البئر إلى الجابية ثم عبر الجداول ورائحة المرزعة في الصباح والمساء ، حيث كنت كثير التأمل في المزرعة وخاصة حينما اصعد  للجبل وأجلس في الغار وأرى من فوق المزارع في الوادي وتكون الرؤية على مدى النظر فلا حواجز،حيث اكثر ما يأسرني في المزرعة هو الهواء النقي والهدوء ومنظر الفراشات عند الجابية والشجر والنخل  ووجود بعض خلايا النحل في آخر المزرعة و الاصوات الطبيعية المريحة من هديل القمري وغناء البلبل والكناري واصوات العصافير وصوت الديك والضفادع،كلاب الحراسة صرصار الليل وقد كان الأفطار الطازج دوماً من بيض الدجاجات البلدي في المزرعة والقشطة والجبن والعسل الحليب وأما غذائنا  فهو من قمح المزرعة حيث تعد جدتي ووالدتي منه المراصيع والمرقوق والقرصان ،،،الخ  وكذلك مايتم طبخه للغداء والعشاء هو من  اللحم والدجاج والخضار والفواكه الطازجة جدا العضوية حيث يحرص والدي بعدم وضع الكيماوي على النباتات لإدراكه بأن ذلك يسبب أمراضا منها السرطان للإنسان والحيوان ، ولقد تعلمت كيف أعد الوجبات من أفطار وغداء وعشاء والقهوة والشاي بالإضافة  إلى تعلمي من عمل المرزعة من عزق للأرض بالمسحاة أوبالحراثة وكيفية رمي البذور ثم خط الحوض وكيف ومتى نسقي الزرع بالماء وعن الحصاد وقطاف ثمر الأشجار وخراف وصرام النخيل وتلقيحها وتكريبها وكيف تغذيت الأرض بالغريف ” الطين ” والرمل والسماد ومتى تريح الأرض ثم تعيد نهلها مرة أخرى وكنت أرى جدي ووالدي رحمها الله وهما يحاولان بعض الأحيان البحث عن حلول ذكية بإمكانياتهم البسيطة لحل مشكلات جديدة تطرأ علينا مثل إنقطاع الماء عندما تشح الأمطار أو يكون هناك نقص في بعض  الموارد وبعض البذور أو عند الحاجة لغرض ما لا يتوافر لدينا وكيف التفكير في وسائل للاستعاضة عنه ومحاولة التعايش مع الأقل والاقل على المدى القصير حتى يتوفر مانريد بعد ذلك فالعيش في عالم المزرعة يجعل الاستهلاكية في أدنى مستوياتها حيث تبدي الأهم فالأهم أو تختار البديل في حالة عدم توفر ماتريد،لذلك كان النهار أكثر عملاً و أطول وأكثر بركة مما كان عليه ولأن الحركة المستمرة من الفجر الى أذان المغرب والعمل والتنزه في المزرعة سيراً على الاقدام بين الاشجار والسنابل ومشاهد إلقاء البذور في الأحواض ” الأشراب ” والغرس لفسلات الشجر أو الحيش والحصاد الملهم، ومشهد الافق الممتد أمام عينيي ثم الغروب، ليطوي صفحة نهار آخر مميز مشهد شروق القمر الرائع وبعد صلاة العشاء نتعشى وبعدها بساعة أو أكثر قليلا أكون مستلقياً على فراشي بسطح المنزل في بيتنا حيث أرى القمر والنجوم ساطعة شفافة وأرى حركة النيازك وهي تسبح من الفضاء وتصل للأرض وأتأمل في خلق الله وعظمته حتى يأخذني النوم بدون أن أشعر، وهذا من  ابهى المشاهد التي لم أكن أفوتها في حياتي بالمزرعة فهي تجربة كانت رائعة بتحدياتها وجمالها ﻷنها تستحق حقا ان تعاش وأن أكتب عن جزء منها حيث لم أستطع أن أوفيها حقها وأعبر عن كل شيء عنها إن الحياة في الريف حياة جميلة بكل لحظاتها والدرس الذي تعلمته بأن الحياة تكون جميلة إذا عشناها ببساطة وتأمل وأمل وتفاؤل وحب للحجر والتراب و النخل والزرع والشجر ورفق بالحيوان والطير والحشرة ، بالإضافة إلى محبتنا للناس حيث كان من يزورنا نعطيه من إنتاج مزرعتنا من الخضار والفاكهة واللبن لإيماننا بأننا نجزى من الله بالأجر الجزيل إذا أكل إنسان أو طير أو حيوان مما نزرع، عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” مَا مِن مُسلم يَغرِسُ غَرْسًا أو يَزرَعُ زَرْعًا فيأكُلُ مِنه طَيرٌ أو إنسَانٌ أو بهيْمَةٌ إلا كان لهُ بهِ صَدقَةٌ. “

سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …