حينما تمر على خاطري بعض الذكريات في فترة طفولتي فهي تمر كشريط سينمائي، يحمل عبقاً من الذكرى والشوق، وعندما أتذكرها أضحك بسبب البراءة وفي نفس الوقت حب الفضول وإكتشاف عالمي الصغير الذي حولي،فكنت أرى جدتي نوره رحمها الله ووالدتي الله يشفيها والاحظ ماذا تصنعان في البيت،كما الاحظ جدي عبدالعزيز ووالدي رحمهما الله في عملهما وماذا يصنعان،وكنت أذهب مع جدتي للحظيرة التي بقرب منزلنا لكي أراها كيف تحلب بعض الماعز والشياه، وأرى والدتي كيف تحلب البقرة وكيف كانتا تنظفان أيديهن وأثداء هذه الحيوانات قبل الحلب ثم أستمع لصوت ازيز الحليب ينزل في سطل الحلب، ثم بعدما تفرغ جدتي من الحلب تتوجه لعشقها الأبدي إلى دجاجاتها البلدي الملونة منها البنية والذهبية والصفراء والسوداء المنمشة والحمراء، التي قد إختارتها بعناية وكيف تعامل الدجاجات بإهتمام وتتفقد غذائهم وماء الشرب هل هو متوفر ونظيف ثم تأخذ غلة اليوم من البيض، وكيف أن الدجاجة إذا أرادت الرقود على البيض ماذا تصنع لها، حيث تعد لها عش من التبن وتختار لها حوالي خمسة عشر بيضة بعناية حيث تأخذها من صديقاتها اللواتي لديهن دجاج بلدي بحيث تأخذ الأفضل من البيضات لكي تحصل بعد الفقس على هجين لديها من الدجاجات والديكة الجميلة وصديقات جدتي كنا يفعلن ذلك أيضاً معها حيث يأخذن من عندها بيض إذا كانت هناك دجاجات سترقد لديهن، وتكون جدتي سعيدة إذا فقست جميع البيضات وعندما ترى الكتاكيت يسيرون وراء أمهم وأرى كيف أن الدجاجة تدافع عن كتاكيتها بشراسة،وكنت أرقب أحياناً ولادة الماعز و الضأن والبقرة وأرى كيف معاناتها مع الآلام التي تصل إلى الموت لكي يحيا صغيراتها،وكنت اسأل جدي ووالدي عن الزراعة،فقررت بأن أزرع في سطح منزلنا الطيني وأحضرت صندوق خشبي صغير كان للجبن ووضعت به تراب وقليل من سماد الحوش ووضعت به بصلة أخذتها من المطبخ وغمرتها في التربة حتى النصف ثم صرت اتعاهدها بالسقيا حتى بدأ البرعم بالخروج وفرحت وشعرت أنني قد حققت إنجازاً ثم جربت الزراعة أيضا بحبات الفول ولكن في قوطي نيدو ولكني وضعت به قليل من السماد ثم وضعت قطن كثير بحيث غمرت البذور بالقطن إلى نصف العلبة وصرت أتعاهدها بالسقيا فنبتت براعم الفول ولكن كان ضعيفاً لأنه يفتقد للتربة،وجربت زراعة الجزر في علبة نيدو حيث وضعت جزرة بعدما وضعت التراب والسماد ونجح ولكن الخيار لم ينجح ثم جربت بأن أضع في علبة نيدو بيضيتين حيث أخذتها من الحوش من عند الدجاج ووضعتها في العلبة وثم غمرتها بالتراب لمدة عشرة أيام لكي تفقس كتاكيت ولكن فشلت، ثم جربتها بقطن لأن القطن في تفكيري مثل ريش الدجاجة وفشلت أيضاً وكل البيض في التجربتين قد فسد،ومن الأشياء المضحكة والمؤلمة في نفس الوقت كانت لدينا قطة قد ولدت اربع قطط صغيرة وقد بدأت القطط الصغار ترضع لفترة ثم لاحظت بأن أولادها متسخين ،فأردت أن أحميهم “أسبحهم “من ماء كان في السطل ثم أخذت أضع واحداً واحداً وكان من أحميه بالماء وأخرجه أجده لايتحرك حتى حميتهم كلهم ورأيتهم جميعاً بلا حراك بعد ذلك رأتني والدتي وغضبت مني وقالت حرام عليك تضع القطط في القاز “الكيروسين ” فقلت يا أمي أنا ماأدري حسبت أن هذا ماء وحبيت أسبحهم عشانهم وسخين فقالت والدتي أمهم هي المسؤولة عن تنظيفهم بلسانها والقطط الصغيرة الآن قد ماتوا بسببك،وثم قالت سأخبر والدك بما صنعت اليوم ،وعندما علم والدي لم يضربني ولكن وبخني وقال لاتعود لمثل ذلك مرة أخرى، كما كنت أجلس أمام المروحة الكهربائية واثبتها بحيث لاتدور ثم أغني وأسمع صوتي مختلفاً بسبب قوة الهواء،ومما أذكره أيضاً كنا بعد العصر أو في الصباح إذا كان هناك إجازة من المدرسة نخرج كأولاد صغار في برحة الحارة “الساحة “فنحن الصغار نلعب بصور” العكوس ” أو مصاقيل وأما البنات الصغيرات فكنا يلعبنا بالحصوات الصغيرة أو بالمصاقيل مع بعضهن وكانت بنت جيراننا إذا لعبت وخسرت مصاقيلها أمنحها من قوطي المصاقيل حقي بعض الصولات والمصاقيل الجميلة وكانت تكون سعيدة وكنت أتحدث معها أحياناً وأحياناً ترسلني والدتي لهم لأعطيهم ذواقة بقدر صغير مما طبخت منه، وكانت والدتها ترسل معها قدر صغير لنا إذا كانوا قد طبخوا وكنا نتبادل أنا وهي الإبتسامات والأحاديث عن الدراسة واللعب وماذا رأت بالتلفزيون من أفلام كارتون،وكنا عندما نريد النوم تفرش والدتي فرشنا في السطح وكنت أستمتع حيث النسيم العليل وكنت أخر ما أرى قبل منامي السماء وهي مزينة وساطعة بالنجوم وأستمتع أكثر إذا كان البدر مشرقاً، وكان جدار السطح ملاصقاً لجدار سطحهم وكنت أسمع صوتهم لأنهم أيضا ينامون في السطح كعادة الناس في تلك الأيام وكنت أكون سعيداً حينما أسمع صوت بنت الجيران وهي تلعب او تتحدث وكنت أترقبها عند عودتها من المدرسة ،وأقلق عليها حينما لا أراها في الباحة أو لم تخرج عند الباب فأعرف أنها مريضة فأسأل أخاها عنها، ومن المضحك أيضا كان في البرحة بيت للنمل فكنت أتفقدهم يومياً وأحضر لهم قليلا من بقايا الرز أو فتات الخبز لكي لايموتوا من الجوع وكنت أعتقد بتفكيري الصغير أنهم بدوني سيموتوا من الجوع ولم أكن أدرك بأن الله الذي قد خلقهم هو من يرزقهم كما يرزق المخلوقات الأخرى، حتى جاء وقت فراق حارتي وأصدقائي حيث إنتقلنا من منزلنا إلى المزرعة فأفتقدت أولاد الحارة وأفتقدت بنت الجيران ،وحينما حصل لي فرصة لأزور عيال عمي في حارتنا سابقاً فمررت من عند منزلنا سابقاً وسألت عن جيراننا قالوا قد إنتقلوا من هذا البيت منذ ثلاثة شهور تقريباً، وحينما كبرت صرت أدرك ماهو السبب لتخريب الأطفال بعض الأشياء والسبب هو الفضول وحب الإكتشاف ولكن أصعب أيامي في حارتنا السابقة هي الأيام الأولى حينما دخلت المدرسة حيث بعد التسجيل أخذني والدي للمدرسة وحضر معي الطابور ثم بعدما دخلنا المدرسة كان قد إختفى، وذهب إلى عمله وصرت أبكي ولا أريد هذا العالم الجديد لأنه يحرمني من الحارة ومن البرحة حيث اللعب مع عيال الجيران والذهاب للبقالة في الحارة متى ماأريد، ولكن في عالم المدرسة أشعر وكأنني في سجن ومقيد في الكلام والحركة، وكانت والدتي تحرص على ان تعطيني فسحة ساندوتش بيض أو جبن واربع قروش لكي أشتري من المقصف ولكن لأنني صغير ولاأستطيع أن أزاحم الكبار على المقصف ،فكنت أدخره لأشتري به في وقت آخر من بقالة الحارة وكنت أرى بعض زملائي من بعض الدول العربية فسحتهم غير ورائحتها مختلفة حيث يكون معهم ساندوتش طعمية أوبالفول أو بالزعتر أو بالعجه، إنها ذكريات لحياة في الطفولة كانت بسيطة ولكنها كانت جميلة ولازلت أجد عبقها في الذكرى لأنها إقترنت ببراءة الصبا وعفوية الطفولة حيث تربينا فيها على أجمل الأخلاق وأصدق القيم ،كما لازلت أتذكر أيضاً في حصة الرسم رائحة الصمغ وقصاصات الورق الملون والصلصال وبرايتي والألوان الخشبية والزيتية ثم ألوان العصار مع الريشة وقلمي الرصاص والمسطرة وحينما وصلت للصف الرابع الإبتدائي صرت أكتب بالقلم الناشف والسايل الباركر وأذكر أن والدي قد إشتراهما لي من مكتبة المعيقلية ،وكنت أتذكر والدي رحمه الله كان يصحيني واخوتي لصلاة الفجر وبعد أداء الصلاة في المسجد فقد كانت والدتي تعد القهوة والأفطار ثم بعد الإفطار نذهب على أقدامنا للمدرسة والتي تبعد حوالي كيلو ونص عن المنزل ،وهناك أشياء أحبها في المدرسة هي الفسحة وحصة الرياضة وحصة الرسم ومكتبة المدرسة حيث نذهب لنقراء فيها ونمتع أنفسنا بقراءة تلك القصص المزينة بالصور مثل سندريلا وليلى الحمراء والذئب والأميرة النائمة وغيرها من القصص التي كانت من إصدار المكتبة الخضراء، وكنت أستعير أحياناً قصصاً من المكتبة بحيث أسجل أسمي في كشف المكتبة وتاريخ اليوم الذي أستعرت فيه القصة وكنت أستمتع بقراءتها ،وكنت أيضاً استمتع بالكتابة على صحيفة الحائط في الفصل وحائط فناء المدرسة ،ولقد كلفني مدرس العربي بإعداد صحيفة جدارية وهي عبارة عن ورق مقوى ونضع فيها مربعات أو أطر منحية أوبأقواس وكل إطار نختار له موضوع أو أرسم على اللوحة رسمه وكان ثمن ذلك هو الحصول على الدرجات في النشاط،وكما كنت أحب حصة التعبير حيث نكتب عن موضوع معين يطلبه منا المعلم أو يكون موضوع التعبير إختيارياً بحيث نكتب عن أي شيء فأذكر أنني قد كتبت عن ولادة بقرتنا والمرة الثانية عن دجاجات جدتي والمرة الثالثة عن زراعتي للفول والبصل والجزر في قواطي نيدو والمرة الرابعة والتي قد أضحكت المدرس هو عندما كتبت عن عالم النمل الذي أطعمه ،ولقد كان المدرس أيضاً حريص كل الحرص على عدم وقوعنا في الأخطاء الإملائية ،ولقد أدركت من خلال مرور هذا الشريط بأن تجارب الطفولة تكون جيدة وتكون مثرية لو كان هناك توجية واعي فكم قد حوت الطفولة من أسرار وكم كانت منطلقا لبدء حيوات وأفكار وأعمال قد حددت بعد ذلك مستقبلهم وكم من طفل قد مات شغفه بسبب قمع أهله أو معلمه له، فلو كان هناك في إدارة المدرسة مكتشفي مواهب ويسلطوا عليها الضوء ويشجعوا عليها لكي يطوروها عند الطفل ويشعروا الطفل وأسرته بأن يعملوا عليها ،لكي يتم تفعيلها لكان لدينا في مجتمعنا في ذاك الوقت مخترعين ومفكرين.
سلمان محمد البحيري