فلسفتي والمبادىء التي أهتديت إليها

إذا تكلَّم الناس عن فلسفتهم في الحياة، فكلمة الفلسفة هنا — بحمد الله — لا تخيف!

لأن فلسفة كل إنسان هي في الواقع تجربة كل إنسان في حياته اليومية، وليست تجاربنا — ولا محصول هذه التجارب من مبادئنا — بالشيء الذي يصعب علينا فهمه، أو يصعب علينا التفاهم عليه.

ومما يُيسِّر علينا فهم هذه الفلسفة أن تكون — كما علمتُ بالتجربة الطويلة — ميراثًا يُولَد مع الإنسان ويتربَّى معه في صباه.

فقد علَّمتني تجارب الحياة من مبادئها أن الإنسان يظل طول حياته يبني على الأساس الذي ولد معه، ونما بنموه في صباه الباكر … وكل ما زاد بعد ذلك فهو بناء فوق الأساس الأول، يعلو أو يتنوَّع في تقسيماته ومنافعه، ولكنه لا يخرج بجدرانه عن نطاق ذلك الأساس.

فالمبادئ التي نسميها فلسفة حياة، هي — كما علمت من تجاربي الطويلة — أساس وبناء: أساس لا اختيار للمرء فيه إلا القليل، وبناء له فيه اختياره على أوسع حدوده، وله بذلك الاختيار أن يجعل أدوار البناء وحجراته ومنافعه أجمل وأصلح مما يمليه عليه وضع الأساس الذي لا حيلة له فيه … وكثيرًا ما يتَّفِق أن يكون المنزل بأساسه المحدود المعيب أرفع وأنفع من منزل آخر أوسع منه أساسًا وأجمل منه موقعًا، ولكن البناء المختار هو الذي يُثبت في النهاية الفضل بين المنزلين.

وأحسب أن مبادئي في الحياة هي المبادئ الدينية على أساسها الأصيل: مبادئ ورثتها من أبوين متدينين لا تفوتهما فريضة في موعدها: الأب والأم في ذلك سواء، كلاهما يؤدي صلاة الصبح عند سماع الأذان من المسجد القريب منا، تكاد مئذنته أن ترتفع على جدران منزلنا، ثم يؤديان كل صلاة في موعدها، ومنها صلاة الظهر التي كان أبي يؤديها في مكتبه وإن ملأته الأوراق المستعجلة، وكانت والدتي تؤديها عند سماع أذانها، وإن نفضت يديها من شواغل البيت، وهي لا تهمل واحدة منها.

وأحسب أنني استفدت من هذه الخصلة عادة أنسب إليها كل عمل ناجح قدرت عليه منذ صباي الأول، وأعني بها عادة الانتظام في المواعيد؛ لأن انتظام مواعيد الصلاة في منزلنا كان يتبعه انتظام المواعيد في كل شيء: في تناول وجبات الطعام، وفي الذهاب إلى المدرسة أو الديوان، وفي أوقات النوم واليقظة، وفي أوقات الذهاب إلى السوق، وفي أوقات المذاكرة أو اللعب أو مقابلة الناس.

ومن تنظيم المواعيد تعلمت تقسيم الأعمال على حسب أوقاتها، فلا سبيل إلى تأجيل عملٍ منها بعد ذلك لعارض من العوارض المتجددة على غير انتظار … ومن هنا اعتذاري — حتمًا — عن كل دعوة تعارض تلك الأوقات المقدورة على حسب الأعمال.

وعلمني تقسيم الأعمال والأوقات فائدة لا نظير لها في مواجهة المتاعب والمشكلات؛ فنحن لا نتعب من عشرة أعمال كبار نؤديها في أوقاتها كما نتعب من عملين صغيرين نرتبك بينهما: أيهما نبدأ به، وأيهما نؤجله، وأيهما نستعدُّ له، وأيهما لا يحتاج إلى استعداد.

إن «الربكة» بين الأعمال هي أكبر المعطِّلات وأخطرها، وتقسيم الأعمال على حسب أوقاتها يريحنا من الربكة، ويفرغ قدرتنا كلها لكل عمل في حينه، ولا فرق بين العمل الكبير والعمل الصغير ما دمنا قادرين على هذا وذاك، وما دمنا نعطي هذا وذاك كل ما هو أهله من العناية والوقت وهدوء التفكير.

إذا قلت إن مبادئي في أساسها دينية، فهذا المثل يفسِّر ما أعنيه؛ لأنه يدل على أن الأساس الديني قد يُبنى عليه مثل هذا البناء من تنظيم الوقت وتقسيم العمل، والإعراض عما عدا ذلك من الحواشي والفضول.

وتلازمني النظرة الدينية إلى الأشياء من حيث أريد أو لا أريد.

وأعني بالنظرة الدينية تلك النظرة التي لا تقنع بالجانب المادي أو الجانب الدنيوي، في أية تجربة من تجارب الحياة … فلا تخلو منها نظرتي إلى الكون في عصر العلم، ولا نظرتي إلى الدراسات الأدبية، ولا نظرتي إلى قيم الأخلاق أو إلى المعاملات بين الناس … وقد يَخْفَى أثر هذه النظرة أو يظهر لأول وهلة، ولكنه كامن مستقر في طبيعته الخفية وإن تعددت تفسيراته وترجماته على اللسان.

قيل إن عصرنا هذا هو عصر المادة، كما سماه بعضهم منذ أواسط القرن التاسع عشر، ولكنني أنظر إليه فأرى أن التسمية الآن لا تصيب، وأنها لا تقرر لنا الواقع إن كانت قد أصابت أو قررت الواقع قبل ستين سنة؛ لأن الذين قالوا عن أنفسهم إنهم ماديون إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يحسبون أنهم حصروا وجود المادة بدقِّ الأيدي وطرق الأرجل، أو بلمحة العين وسماع الأذن، وأنهم حصروا الوجود الصحيح بذلك، وكل ما عداه فهو شيء غير موجود؛ لأنه غير منظور وغير مسموع، وغير مدقوق بالأيدي أو مطروق بالأقدام …

فاليوم يُثبِت لنا العلم أن إدراك حقيقة المادة كإدراك حقيقة الروح، وأن الذين ظنوا أنهم محققون لأنهم ماديون، لا يعرفون من المادة في النهاية إلا أنها معادلات رياضية وذبذبات في الأثير، ثم لا يعلمون عن الأثير أكثر مما يعلمون عن عالم الروح.

كل عنصر من عناصر المادة فهو يتألَّف من النواة والكهرب، وكل نواة تنقسم، فإذا هي شعاع … وما الشعاع؟ هزات في الأثير. وما الأثير؟ قل علمه عند ربي، كما تقول عن عالم الروح. فليس للماديين أن يتطاولوا بالعلم هنا على الروحانيين أو العقليين، أو من شاءوا من المفكرين والمؤمنين غير الماديين.

ويقال عن هذا العصر أيضًا إنه عصر الفضاء، وهو كذلك عصر الفضاء، ولكن العصور جميعًا — فيما أعلم — لم تعرِّفنا بقيمة الأرض بين الأفلاك السماوية كما عرَّفنا عصر الفضاء بقيمة الأرض السماوية؛ لأنها قيمة تنفرد بها بين الشموس والكواكب والسيارات، فإن لم تكن منفردة بها فهي — على التحقيق — أُعجوبة نادرة لم تصل أرصاد الفلك إلى مثيل لها في آفاق السماوات، ومن هذه الأرصاد ما يُرى بالبصر إلى ألوف الألوف من السنين الضوئية.

فليس من حوادث الفلك المتكررة كل سنة، أو كل ألف سنة، أو كل مليون سنة، أن تتجمَّع منظومة شمسية بسياراتها كما تجمَّعت منظومتنا الشمسية. وليس من حوادث الفلك المتكررة أن تكون بينها سيارة تتوسط في وقت واحد، في درجة واحدة، وفي مقدار الحجم، وفي قوة الجاذبية، وفي تداول النهار والليل والنور والظلام، وفي تقسيم العناصر، ولا سيما العناصر الصالحة للحياة.

وليس من الحوادث المتكررة أن تجتمع هذه المصادفات كلها في التوسط والتقابل، لتكون هي الأوفق لظهور الحياة على ظهرها.

ومن المحقق أن الكشوف الحديثة لم تكشف لنا عن كائنات عقلاء يسكنون السيارات العليا، ويحاولون أن يعرفونا كما نحاول نحن أن نعرفهم، فلماذا لم يحاولوا كما نحاول؟ ولماذا لم يسبقونا أو يشتركوا معنا في بحثنا عنهم وبحثهم عنا؟

كل تفسير لهذا السر ينتهي بالعلم إلى السر الذي عرفناه بالإيمان: إن هذه الكرة الأرضية في مكان خاص من الكون الواسع، ولا يغير هذه الحقيقة كشف من كشوف الفلك يدلنا بعد حين على سكان عقلاء على مسافة كذا من الملايين من السنين الضوئية، فإن سر الحياة — بعد ذلك — لا زال سرًّا نادرًا يحتاج إلى اختصاص عجيب بين أرجاء السماوات الواسعة، ولا تقوى على إظهاره كل مادة تتفاعل ولا كل حركة تحملها الذرات والكهارب والنويات بين ملايين الأجرام السماوية، في ملايين السنوات الضوئية أو غير الضوئية.

وهذه فلسفة يقول الماديون — إذا ساءوا — إنها لم تخلُ من أثر التفكير الديني القديم. ونحن نسبقهم، أو قد سبقناهم إلى الكشف عن أساسها الديني القديم، ولكننا في هذا العصر نتعلم من التفكير المادي أيضًا أنه — إذا صحَّ — علَّم الماديين دروسًا جمة في التواضع أمام الحقائق الكونية، وأمام حقائق الحياة؛ فإن سر المادة قد أصبح اليوم أحوج إلى الإيمان من سر الروح، وإن عصر الفضاء هو الذي يقول عن الحياة إنها ظاهرة خاصة بين ظواهر الكون، وإنها بعد تفسير المادة في حاجة إلى تفسير كثير؛ لأن المادة موجودة في كل مكان، ولكن الحياة توجد هنا وهناك على آفاق بعد آفاق، ولعلها لا توجد هناك في مكانها المجهول إلا على الظن والتقدير.

***

ولكل منا — نحن بني الإنسان — فلسفاتنا الكثيرة، أو مبادئنا الكثيرة، إلى جانب هذه الفلسفة الكبرى التي نحيط بها مسألة المسائل عندنا: وهي مسألة الحياة كلها، أو مسألة الوجود بما تتسع له أمامنا من ظواهره وخفاياه.

لكل منا فلسفاته، أو مبادئه، فيما يعنيه من شئون النفس، أو شئون المعيشة أو شئون الناس.

وتلك هي مبادئ فكرية، أو عملية، تهدينا إليها التجارب المتتابعة، ثم يأتي دورها فتهدينا هي إلى تصحيح تجاربنا، وإلى اختصار محاولاتنا المشتتة في محاولة واحدة، هي أهدى منها وأقرب إلى القصد وتوفير الأوقات والجهود.

وهذه المبادئ على كثرتها، يمكن بالتجربة أيضًا أن نجمعها — فيما يعنينا نحن المشتغلين بالأدب والفن — في أصول ثلاثة من المبادئ الشاملة: مبدأ الأدب والفن، ومبدأ الأخلاق، ومبدأ المعاملة. وكلها من المبادئ التي يصحُّ أن تكون عقيدة إيمانية لارتباطها بالوجدان والشعور، كما يصح أن تكون قضية فكرية لارتباطها بالأسباب ومسوغات العقل والنظر.

مبدأ المبادئ — فيما اهتديت إليه من تجارب الآداب والفنون — أن الفن كله تعبير جميل عن الشعور الإنساني الصادق: الفن هو الإنسان معبَّرًا عنه، والتعبير هو قدرة إنسانية جميلة، أجملها هو الذي يستطيعه أصدق المعبرين.

وليكن الإنسان ما شاء؛ فالتعبير الصادق عنه هو الفن الذي يحيا، ويستحق أن يخلد خلود الإنسان.

ليكن ابن هذا البلد أو ذاك، وليكن ابن هذه الطبقة أو تلك، وليكن فتًى أو شيخًا، وفقيرًا أو غنيًّا، ومتحدثًا عن الطعام والكساء أو متحدثًا عن الفضاء والهواء، أو عن زهرة على الأرض أو نجم في السماء.

إنه إذا كان إنسانًا صادقًا في كل هذا أو في بعض هذا، فحسبنا منه تعبيره كما يعبِّر الإنسان … فإن يكن قد ألغى إنسانيته فليذهب بعيدًا عنا نحن بني الإنسان، فلا شأن لنا ببلده ولسانه، ولا بغِناه وفقره، ولا بطعام معدته أو كساء جلده، حيث يتساوى طعام الإنسان والحيوان، ويتلاقى نسيج الآدمي وجلد النمر وصوف الخروف.

أما مبادئ الأخلاق فلست أعرف لها قاعدة تُقام عليها خيرًا من القاعدة التي تقام عليها جميع مطالبنا وحاجاتنا.

نحن نطلب الثمرة الجيدة ولا ننتظر من أحد أن يكافئنا على اختيارنا، بل نحن نبذل فيها أضعاف ما نبذله في الثمر الرديء، وكذلك نصنع حين نختار الملبس والمسكن والدواء، لا ننتظر أن نأخذ جزاءً على اختيار الحسن منها، بل نحن نُعطي المزيد من الجزاء حيث وجدناها.

وكذلك الخُلق الجميل، هو أحرى أن نحمل كلفته ونبذل في سبيله، من أن نعمله ونترقَّب المكافأة عليه … أو كما قال حكيمنا العظيم أبو العلاء:

فلتفعل النفس الجميلَ لأنه خيرٌ وأجمل لا لأجل ثوابه أما معاملة الناس، فالخير كل الخير، أو الراحة كل الراحة، أن نحسبهم بصفاتهم وطباعهم، لا بأسمائهم وأشخاصهم؛ فإننا إذا ابتُلينا منهم بصفات الطمع والخداع والحسد والجهل والكسل، وما إليها، وما إليها إلى غير نهاية؛ لم نُفاجأ منهم بجديد، ولم نشعر بصدمة المفاجأة بعد تجاربنا الأولى معهم؛ إذا ابتُلِينا منهم بألف طامع كل حين قلنا لأنفسنا: وما ذاك؟ أليس الطمع أمرًا معهودًا من بني آدم وحواء؟ أليس طامعنا هذا كأولئك الطامعين، أو كهؤلاء الطامعين …

ذلك أصوب وأدنى إلى الراحة من أن نحاسِب الناس فلانًا بعد فلان، وزيدًا بعد زيد، وبَكرًا بعد بكر، وخالدًا بعد خالد … فإن الطمع من كل منهم — إذن — ليبتلينا بمفاجأة جديدة وصدمة جديدة في كل حادثة جديدة، ولا نهاية للتجارب المتكررة على هذا المنوال.

وأحسبني لا أبرئ الذمة إذا زعمت أنني حدثتكم عن فلسفتي في النظر إلى الكون والحياة، وإلى الآداب والفنون، وإلى الأخلاق والمعاملات، ولم أحدثكم عن شئون كل يوم من عادات المعيشة في المقام والطعام، وبخاصةٍ حين تعود بنا هذه الشئون إلى فاتحة الحديث عن العبادة والنظام.

أرى مما راقبته من أمر نفسي أنني لا أغيِّر عادة من العادات إلا ما عرفت سببًا لتغييره أو لمست وجه الحكمة من هذا التغيير، فلم أغيِّر شيئًا قط لأنه زي تغير، ولم أنتحل زيًّا قط لأنه زي شاع، ومن هنا إنني لم أغيِّر مسكني المأجور أكثر من خمس وثلاثين سنة، وإنني ألبس اللفاع — أو الكوفية — اليوم كما لبستها في إبان صباي؛ لأنها من مطالب الوقاية الصحية وليست من عادات الأزياء.

وأرى كذلك مما راقبته من أمر نفسي أن الصيام فريضة، لو لم تأمر بها الأديان لدبَّرها الناس بحكم الخبرة في المعيشة. وقد رأينا الجنس اللطيف يصوم عن الطعام المشتهى والشراب الهنيء نشدانًا للجمال، ورأينا أبطال الرياضة البدنية يصومون مثل صيامهنَّ نشدانًا للقوة والرشاقة، وأراني — ولست على مذهبهم ولا مذهبهن — أصوم يومًا كل أسبوع عما عدا السوائل؛ لأنه أصح وأقوم للبدن والمزاج.
ونعود كما بدأنا فنقول: إنها عادات ومبادئ، إلا أنها — مهما يكن من نصيب التفكير لا تخلو من نظام العبادة وصبغة الإيمان.

الكاتب / عباس محمود العقاد رحمه الله

About سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

Check Also

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …