اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ، أنصتي إلي نحن في مزرعة جدك ، سوف نعيش هنا يجب عليك أن تحسني التصرف ، فجدك رجل كبير في السن وهو شديد في التعامل
كوني فتاة مطيعة أفهمتِ .. وقبل أن أنطق بكلمة واحدة سمعت صوتا من خلفي يقول . لم تأخرتما في الوصول؟؟ نظرت اتجاه الصوت فاذا به جدي (أحمد ) وبجانبه تقف جدتي (حفصة) . نظرت إلي وتبسمت لي ومسحت على رأسي وقالت لقد كبرت يا صغيرتي وأصبحت فتاة جميلة ، أنظر يا ( أحمد ) إلى حفيدتك ألا تشبه أمها كثيرا ، فقاطع كلامها وأخبرها أنه سوف يذهب لتفقد أمور المزرعة ، ولم يعيرني أدنى اهتمام !! رغم أنه سار من جانبي،. كان وجه جدتي هادئا يدعو إلى الطمأنينة،، على عكس وجه جدي ، كان شاحبا جافا وعيناه جاحظتان منحني الظهر ، نحيل الجسد ، يسير وبيده ذلك العكاز . قلت لنفسي إنه يختلف عن جدي رحمه الله لأبي . فقد كان يشعر بالسعادة عندما يراني ويضمني بين ذراعيه ويسمعني أجمل الكلمات ..أما هو لا هل ذلك بسبب بعدي عنه طول عمري ، لم أتذكر أني هاتفته يوما ولم تكن أمي تتحدث عنه . قطعت حبل أفكاري جدتي بطلبها أن ندخل لكي نستريح من تعب السفر .. كانت المزرعة جميلة غناء واسعة ، يتوسطها قصر كبير أما تصميمه فهو ذو طراز قديم ، تتسلق جدرانه أغصان النباتات التي كسته بلونها ، وكأنه لوحة فنية في غاية الجمال أما نوافذه فقد طوقت بأكاليل الأزهار ، تحيط به أشجار الفواكه بأنواعها و التي اصطفت بشكل هندسي خلاب ، يتخلله صوت هدير الماء وكأنه نهر جاري من أعالي الجبال . كان القصر متعدد الغرف ومليء بأجناس مختلفة من الخدم .. قادتني إحداهن إلى غرفتي التي تقطن بالدور الثاني ، شتان بينها وبين غرفتي في بيت أبي ، كانت من اختاري وكل ركن فيها ينبض بالحياة أما هنا كانت الجدران صماء لا حياة فيها رغم اتساعها وجمال أثاثها ..أتى وقت الغداء وكان أول اجتماع لي مع جدي ، أمرت بالنزول واصطففنا أمام مائدة خشبية مستديرة ، تمتلئ بأصناف متعددة من الطعام ، ولكن لم تكن لدي شهية لتناول أي منها خيم الصمت علينا ،، ولم يسمع سوى أصوات الأطباق والملاعق والأشواك .. تذكرت حينها عندما كنا نتشاجر أنا وإخوتي ونحن نتناول الطعام وضحكات أبي وتبسم وجه أمي حن قلبي لتلك الأيام ، تمنيت أن يعود بي الزمن إلى الوراء لأحتضن تلك الأيام .. كان كل شيء كئيب في ذلك المنزل رغم جماله !! جدتي كانت دوما منشغلة بحياكة الصوف ، وجدي منشغلا بأعمال المزرعة ، وأمي تهتم بأمور القصر .. كان كل شيء هنا يخضع لقوانين جدي ، النوم والأكل والخروج وكأننا نعيش بمعتقل .. مرت ثلاثة أشهر على قدومنا لبيت جدي .. ذات ليلة لم أستطع النوم !! فقد أصبح الخوف هاجسا يسيطر على حياتي . لم أعد أعرف ماذا أريد وما الذي ينتظرني ، لم أعد أمتلك الرغبة في الحياة ، ولم أعد أنتظر حدوث أي شي ، فلقد فقدت كل شي ، لا أحد يعرف كم قاومت ، لا أحد يعرف حجم الجحيم الهائل الذي بداخلي أصبحت وحيدة غريبة ، ضاقت علي الأرض بما رحبت فخرجت أستنشق بعض الهواء النقي ، نظرت إلى السماء وكأني أول مرة أراها شعرت بحنين مؤلم ، أعاد إلي ذكرياتي القديمة مع أشخاص أحببتهم بصدق ولم أعد قادرة على رؤيتهم ، كانت قطرات المطر تداعب أغصان الأشجار التي تتمايل مع النسمات الباردة وكأنها تسامر ضوء القمر . كان الهدوء سيد المكان ، وكان العالم لا يوجد به أحد غيري ، لا أعلم ما الذي حدث لي ، شعرت برغبة شديدة في الصراخ فقادتني قدماي بعيدا عن القصر ، وظللت أصرخ بأعلى صوتي لعلي أزيح الهم الذي أثقل صدري ، سالت أدمعي ، ضربت الأرض بكل قوتي لعلها تنشق وتبلعني وتريحني من هذا العناء . تمنيت الرحيل حيث أبي وإخوتي، لم أعد أريد أن اعيش وأنا مكبلة اليدين بمقبرة على هيئة قصر !! نعم كان ذلك القصر أشبه بمقبرة ، لا روح فيها ولا حياة ، تبدل الفرح إلى ألما ، إختفت شمس السعادة ، وحلق الأمل بعيدا خلف الضباب . نعم أصبحت حياتي لا لون لها ولا طعم. ليت ذلك الحادث أخذني معه ولم يبق لي ذكرى بهذه الحياة . وبينما كنت أستجمع شتاتي إذا بي أبصر ظلا يقف خلف السور !! اختبأت خلف أقرب شجرة لي ، ودب الخوف في قلبي . وهمست لنفسي من هو ؟؟ أهو لص ؟ أم جدي ؟ وضعت يدي على فمي لكي لا يسمع صوتي ، جثوت على الأرض . احتضنت نفسي بيدي ، ليسكن خوفي ، فإذا بي أسمع لا تخافي فأنا لا أريد بك أي سوء اقتربي مني ، قلت لنفسي إنه ليس صوت جدي ، من يكون !! نظرت خلسة من خلف الشجرة التي أختبأ خلفها ، وقلت من أنت ؟؟ ماذا تريد مني ؟ قاطعني بكلمة يفصل بيني وبينك سور لا داعي للقلق أو الخوف ، إليك هذا .. إنه لك ، إستجمعت قوتي واقتربت منه . مددت يدي وهي ترتجف ولم أشعر بماذا أمسكت ! فسألته ما هذا ؟ قال اكتبي كل ما تشعرين به ، سوف تجدين الراحة عندما تكتبين .. بادرته أكتب ماذا ؟ أكتبي ألمك ، حزنك ، شقاءك ، تعبك ، همومك . كل ما يدور بداخلك ، بدلا من أن تؤذي نفسك أو ترهقيها ، نظرت إليه بتعحب فقال لي : ألا تحسنين الكتابة ؟ قلت له نعم أحسنها ، أدار ظهره لي وهو يردد إذا لنا لقاء عندما تنتهين . تعجبت من كلامه فلم يكن مني إلا أن ركضت مسرعة لبيت جدي ودخلت غرفتي وأقفلت الباب . جلست بإحدى زوايا الغرفة ، وأنا أراقب ذلك الباب وتلك النافذة !! خوفا من أن يكون قد لحق بي ، ظللت أطوق نفسي بيدي وقلبي يزداد نبضه ، حتى ظننت أنه سيخرج من بين أضلعي ، ظللت أفكر بكلامه حتى غلبني النعاس ولم أشعر بأي شي ، إلى أن سمعت أصوات العصافير وهي تغرد على نافذة غرفتي وأشعة الشمس تنيرها ، سألت نفسي هل ما وقع لي حلما أم ماذا ؟ نظرت ليدي فإذا بي أيقنت أنه ليس حلما بل حقيقة فقد كنت أحتضن تلك المفكرة التي طلب مني أخذها بين يدي، كانت ليلة عصبية، ولم أخبر أحدا بما جري لي. مر يومين وأنا أفكر بما حدث. فما كان مني إلا أن أمسكت بقلمي وبدأت أكتب كل ما يجول بداخلي ، أصبحت أحمله معي أينما حللت كما كنت أفعل أيام طفولتي ، حان وقت اللقاء فعندما خيم الليل تسللت إلى خارج البيت لأعيد إليه مفكرته .. وعندما اقترب من السور رأيته يتجول وبيده كتابا يقرؤه عندما رآني اقترب وقال كيف حالك
اليوم ؟ ابتسمت له وأجبته بأفضل حال .. أتيت لأعيد لك ما أعطيني إياه .حمله بين يديه وظل يقرأ كل ما كتبت . ثم تبادلنا أطراف الحديث وقد أخبرني أني أملك قلما رائعا.. وأنني موهوبة ، حروفي تقطر تميزا ورقي ، تنبض بي روح الجمال وتفيض بخيال ذو حس مرهف ، وأوصاني بقراءة بعض القصص لكي يقوى قلمي ويشتد عوده ولتتحسن مهاراتي الكتابية ، وقام بدعوتي إلى بيته للاطلاع على مكتبته .. عدت إلى بيت جدي وأنا في غاية السعادة.
لا أعلم ماذا جرى لي أخذت أركض وأدور حول نفسي ، ضحكاتي تصل إلى عنان السماء ، وكأني شعلة أضاءت المكان وغمرته بأجمل الألوان .في اليوم التالي ذهبت إلى بيته ، كان رجلا في نهاية الأربعين من عمره طويل القامة عريض المنكبين ، يميل لون شعره بين الأسود والأبيض ، هادئ الطباع ، يتمتع بالهدوء والسكينة ، لا تفارق الابتسامة شفتيه ، رقيق الكلام و ليس فظًا ، لم أطل المكوث كثيرا ، عدت أدراجي وأنا أحمل بين يدي أنواعا مختلفة من الكتب ، كانت كفيلة بانشغالي طول اليوم أنستني همي ، وتعبي ، وقسوة الأيام علي ، وتجاهل جدي لوجودي . أصبحت أذهب إلي بيته نهاية كل أسبوع كان بمثابة مرشد لي أعاد إلي ثقتي بنفسي وبقلمي ، تعلمت منه فنون الكتابة وجمال انتقاء المفردات والتشبيهات ، أخبرني أن القلم بمثابة الصديق .. و أن الكتابة هي الهمسات بين القلب و العقل ، هي الأنين الذي يعجز اللسان عن النطق به ، هي الصوت الجريء لكل شخص يخجل من قول مشاعره علانية ، هي أصوات ننطقها عبر أقلامنا وكتاباتنا من أعماق قلوبنا وبراءة أحاسيسنا . وأن الكتابة ماهي إلا أحلاما كثيرة عجزنا عن تحقيقها فتولت الأوراق تحملها، وأنها علاج لمن أشقى الدهر قلبه . نقشت تلك الكلمات على جدران قلبي لأنها لم تكن كلمات عابرة .. فمنذ اليوم الذي التقيت به طويت صفحة الماضي من حياتي ووضعتها بداخل صندوقي الخشبي .. تبدلت نظرتي للحياة فأصبح قلمي ترجمان لقلبي وبريد للساني . وكلماتي مثل القمر لها نور ، ومثل السيف له حد ومثل الجواد له عنان ، ومثل البحر له موج ؛؛ عندما تضيق بي الدنيا.
سميرة عبدالهادي