لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي!
لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت..
وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة
لتحديد ملامحي النهائية.
كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً..
لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»!
حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير
المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة.
شعرت أن هناك علاقة ما بدأت تنمو بيني وبين “السيدة».. كانت لمستها لي مختلفة كنت أشعر بالدفء والأمان عندما تفتحني وتغلقني قامت بتزييني من الداخل بعمل فني على شكل سجادة أنيقة.. ومن الخارج كانت تُعلّق على صدري كل فترة بعض الأزهار التي تقطفها من
الحديقة الصغيرة كنت أقنع نفسي أن هذه الأزهار عُلقت على صدري لأجلي.. لا لأجل الضيوف! كم أكره بعض الضيوف والزوار الثقلاء وطرقاتهم الغبية ولكن أصدقاء وصديقات «السيدة» أحبهم.. حتى وإن«طرقوني» بعنف أحياناً.
تمر السنوات، وأشعر أنني أصبحت جزءا ً من هذه العائلة.
كنت أرى «السيدة» وهي تكبر.. وأرى الطفلة «سارة»
وهي تنزع ثياب طفولتها وتتحوّل إلى صبيّة فاتنة.
ذات عام – وكم كان حزينا ًهذا العام – رحل «السيّد» الذي خطفه الموت ورحلت «سارة» لتكمل دراستها الجامعية
في المدينة البعيدة
بقينا وحدنا: أنا و«السيدة»..
كنت أراها وهي تذبل أمامي وتفقد نضارتها ومع هذا كنت – كل يوم – أنتظر بفارغ الصبر لمستها لي عندما تفتحني في الصباح.. كانت تلك اللمسة تشبه «صباح الخير» اعتادت في الفترة الأخيرة أن تشرب قهوتها بجانبي تسحب كرسيا ً خشبيا ً وتجلس بالشرفة.. (كم أحسده وكم تمنيت لو أنهم صنعوني كرسيا بدلا من باب!).. أظنها تفكر بـ«سارة».. وتتذكر «السيّد»… ورغم أنني نصف
مفتوح إلا أنني أنشغل عن داخل المنزل بالنظر إلى خارجه إليها !
في ليالي الشتاء، كانت تجلس في الصالة تقرأ كتابا ً، وكنت أبتهج لرؤيتها بقربي ورغم العواصف والبرد والأمطار التي تضرب ظهري من الخارج إلا أنني كنت من الداخل أشعر بالفرح والدفء.
في أحد الأعوام (لا أدري متى بالضبط، فذاكرتي توقفت في ذلك اليوم)أتى بعض الغرباء – وبعد سلسلة طرقات عنيفة – ضربوني بقوة وبعد همهمات وحوار مرتبك.. دخلوا غرف المنزل يفتشونها..
بعد دقائق خرجوا من المنزل وهم يحملون «السيدة» على نقالة.. خرجت دون أن تلتفت لي أوتلمسني أو تودعني بأي شكل.
مرّت سنوات لم يطرقني أحد ولم تـُعلّق الأزهار على صدري.
كبرت.. وصار صوتي بشعا ً لكثرة الصرير الذي يحدثه.
ضعفت مفاصلي.. وصار العث يأكل أطرافي..
وتآكلت من البرد والوحشة والوحدة وتبدل الفصول.
وذات صباح ربيعي بارد: أقبلت نحوي سيدة يرافقها شاب
أطول منها وأصغر من عمرها.
«كأنني أعرف هذه الملامح ».. اقتربا.. «كأنني أعرف إيقاع هذه الخطوات»
وما أن لمستني حتى سقطت على الأرض!
الأشياء حولي تظن أنني سقطت لأن أطرافي تآكلت
ومفاصلي أصابها الصدأ لا.. بل لأنني عرفت هذه اللمسة.. إنها تشبه لمسة «السيدة».. ولم لا؟
طالما أنها من ابنتها «سارة» والتي يرافقها ابنها الشاب.
أتت به لتزور منزل العائلة المهجور.
بعد جولة صغيرة في أرجاء المنزل.. وبعد أن هب هواء
شديد البرودة ، جمع الشاب
بعض الأوراق المتناثرة ورمى بها في المدفأة القديمة
ليشعل نارا ًتجلب الدفء لأمه. نظر حوله.. واتجه صوبي.. وأخذ يـُكسّر أطرافي ويرميبها في النار!
الكاتب / محمد الرطيان