من رحم الفشل نجحت

(الحمدلله كثيراً على كل وجع كان سبباً في نجاحي)

قبل أن أبدأ باسترجاع الذكريات التي قد تذكرني بمراحل نجاحي أو فشلي, أحمد الله كثيرًا على كل ما مررت به, وعلى ما آل إليهِ حالي الآن.

بعض الكلمات لا تصلح إلا لبداية مؤقتة, حيث تنتهي قبل أن تبدأ, وهذا الذي لا أرجوه الآن, وأنا أحاول أن أعيد للماضي بلحظات, ولكل السنوات التي عشتها وتعايشت معها بسلميّة تامة بعضًا من الألق.

عندما تتوقف ذاكرتي عند المرحلة الدراسية, وتحديدًا عند المرحلة الثانوية حيثُ بدأ كل شيء بالتفاقم وبالثورة التي دفعتني نحو مطارح لم أكن لأطأها, أو لم تكن لتطأها أنثى آنذاك, لكني قد فعلتها بغاية الشغف و التحدي, ذاك التحدي الذي نعلنه للملأ حتى نثبت لهم من نكون, وما نريد, وقد ننجح, لكن هذا الأمر قد يعتمد على حسن تدبيرنا لسير خطانا, وقد نفشل, وهذا قد يعود لاندفاعنا المبالغ نحو النتيجة التي نطمح لها بتسرعٍ مراهق.

-الثانوية- هذه المرحلة التي تنتصف النضج والمراهقة, أو قد تكون كلاهما, لا يهم ماذا تكون, لكن المهم هو أنها كانت مرحلة فارقة جدًا عند كل شخص بدأت أحلامه بالتكاثر, ولن ينتظر حينها سوى أن ينزع ثياب تلك المرحلة بتخرجهِ منها أو تخرجها هي منه ليحقق ما يريد تحقيقه, لكنها كانت فارقة معي كثيرًا وفارقة في ذاكرتي أيضًا, تلك المرحلة التي بدأ فيها حرفي بالتشّكل وبالصراخ وحتى بالبكاء, كنتُ أكتب كثيرًا بمشاعرٍ ثائرة, بمشاعر تصارع الصمت والضجيج في ذات الآن, كنتُ أترجمها بلغةٍ لا أفهمها, لكني كنتُ مجبرة أن أكتبها حتى تستكين هذه الآلام التي تعتصرني بكمد.

كنتُ شغوفة جدًا بحصة التعبير وكل الحصص الأدبية التي تركز على البلاغة, والنحو, وفاشلة جدًا جدًا بكل ما ترمي إليه هذه الكلمة من معنى, في حصص الرياضيات-الكيمياء-الفيزياء, وجميع الحصص التي تتطلب فيها أن يكون العقل حاضرًا, دون أن تتدخل العاطفة بذلك.

بعد السنة الأولى من الثانوية اتجهت للقسم الأدبي دون أي تردد يذكر, لطالما كنتُ أجدني بين موادها بتفوقٍ غريب. السنة الثانية والثالثة, اجتزتها بالكثير من الجنون والمشاكسة, حيث كانت المعلمات تطلقن عليّ لقب (الشيطانة) بسبب تأثيري الواضح على الفصل الذي أنتمي إليه, بالإضافة لتكويني حزب من الطالبات حيث كنّا نسعى لنشر البسمة في أرجاء المدرسة, بعفويّتنا ومرحنا, وفعلًا أصبحنا في كل المدرسة أشهر من نار على علم. كان هدفي ألا أترك هذه المدرسة إلّا وأنا أشغل حيزًا في قلوب كلّ من فيها من إداريات, ومعلمات, وطالبات, والحمدلله نجحت في ذلك, بذكريات لا تنسى, وبعد تخرجي بدأت حياتي الفعليّة مع تجاربي التي جعلتني أشعر بالفشل والنجاح في ذات الآن, لكنها في ذات اللحظة دفعتني للحياة بقوةٍ لم تثبط من عزيمتي، بل كانت هي السبب الأكيد في نجاحي آخيرًا, والحمدلله على ذلك.

و لأننا قد نكون أقلّ تجربةً وخبرّة, نكون حينها أكثر حياةً واندفاعًا, بعكس ما نصبح عليه, عندما تثقلنا التجارب بخيباتها أو وقوعها.

كنتُ أشعر بأن روحي بدأت حرّة, بدأتُ أكبر، وبدأت أحلامي تتعاظم وتكبر معي، كنتُ أهوى التقديم، والأضواء، والشهرة التي تنعكس من خلالها. كنتُ أرغب بأن أصبح يومًا ما مقدمة تلفزيونية، وفكرت كثيرًا حينها كيف سأبدأ وإلى أين سأتجه مع خبرتي (الصفر)، بحثتُ مطولًا ومطولًا عن بداية تقودني لتحقيق هذا الحلم الملوّن بالضوء، وأخيرًا وجدت الطريقة، بل وجدت البداية التي ستشرع لي الطريق، كان هنالك برنامج شبابي الأول من نوعه على مستوى المملكة، يعرض على تلفزيون لبناني، لكن التصوير كان سيكون مسجلًا ومكان الاستديو في جدة، فهو في ذات المدينة التي أنتمي إليها.

كان هذا الخبر مفرحًا جدًا لي، فكرة البرنامج كانت كل سنة يتم تغيير المقدمين لإتاحة الفرصة لشباب وبنات آخرين لهم ذات الطموح والحلم في الظهور، وفعلًا فعلتها وبعثت لهم بالسيرة الذاتية مرفقة بصورتي الشخصية، ثم تم التواصل معي حتى يتم إخباري عن اليوم المخصص لتجربة الأداء، ذهبت للتجربة والربكة والخوف والقلق من المجهول يثقل خطوتي، لكن الأمل كان فيّ كبير، رغم أن ثقتي بنفسي كانت شبه معدومة، اتجهت للاستديو، جلست على المقعد المخصص لي، أمامي كاميرا ضخمة لأول مرّة أصافحها بالنظرات، ثم أعطاني مساعد المخرج المايك، حينها بدأ المخرج بالعد التنازلي الذي من المفترض أن أبدأ بعده بالحديث عن اسمي، وعن عمري، وعن مؤهلاتي الدراسية ثم عن حياتي بشكل عام، لكني تلعثمت كثيرًا، وأعدت التصوير أكثر من مرة.

رغم بساطة الحديث الذي كان عليّ قوله، أخافتني حينها العدسة بغموضها وسوادها، لكني أحببتها رغمًا عن ذلك جدًا، بعدها بأسبوع تقريبًا، أعلنوا عن أسماء المرشحين، الذين لم أكن أنا منهم، حينها أصبت بالخيبة، وبالوجع، واستشعرت في ذاك الوقت ولأول مرة مرارة الفشل.

ابتعدت خلال أشهر عن كل شيء يربطني بالعالم الخارجي، ركزت على دراستي الجامعية التي بدأت، لكن ذاك الحلم لم يفارقني قط، حيث عقدت النية بأني سأعاود المحاولة في السنة القادمة، وسأكون أفضل وسأنجح وسيتم اختياري.

وفعلاً بدأت بالتدريب على ذلك وبمشاهدة عدة مقاطع تدريبية تشرح كيفية التقديم التلفزيوني.

انتهى العام وبدأ العام الجديد وبدؤوا بالإعلان عن رغبتهم في مذيعين جدد، وقدمت للمرة الثانية، لكن ثقتي هذه المرة كانت أقوى وظاهرة للعيان، وفعلًا تم الاتصال بي وإخباري بالموعد المحدد، ثم ذهبت إليهم و أنا أستشعر لذة النجاح حتى قبل أن أبدأ، وبأن عدسة الكاميرا ستكون هذه المرة لطيفة وسترحب بي أكثر من ترحيبي بها، وهذا ما حدث.

أمسكت بزمام الأمور وفعلتها، كنتُ هادئة، واثقة، ومتحدثة لبقة، حققت ما أريده في تلك اللحظة و تفاجؤوا بتطوري اللافت خلال عام واحد، كما أعجبهم قوة إصراري والأمل الذي لم أتخل عنه في سبيل تحقيق حلمي بالظهور، بعدها بفترة وجيزة هاتفوني حتى يزفوا لي الخبر الذي كنتُ أنتظر سماعه، وهو أنه قد تم اختياري ضمن المذيعين الجدد الذين سيظهرون على شاشة التلفزيون قريبًا.

تلك التجربة التي عشتها خلال عام كامل، كانت نقلة نوعية في شخصي وفي تفكيري، حيث تلك التجربة كانت فريدة من نوعها، في وقتٍ كانت المرأة فيه تعاني من عدة أمور وأبسطها أنه كان من الصعب عليها أن تعمل، وكيف لو كان ذاك العمل مختلطًا!

بعد هذه التجربة سألتُ نفسي مطولًا: ماذا بعد؟ إلى أين سيقودني حلمي الجديد، كنت أرغب بشدة بخوض غمار الإذاعة والنجاح فيها أيضًا، حيث كان يستهويني حينها سماع الإذاعة، ومدى الحرية التي كانت لدى المذيعين في اختيار الأغاني والموضوعات التي يودون تسليط الضوء عليها.

لكني حاولت في ذلك عدة مرات ومحاولاتي باءت بالفشل أيضًا، حينها حسمت القرار، وقلت إن هذا المجال بقدر ما هو مميز، وملهم، إلا أنه لا يناسبني. هنالك أمر آخر تجاهلته فيّ، وأنا مميزة فيه، وهو الكتابة، لماذا لا أعود للكتابة، وأطور من نفسي للحد الذي أصبح فيه كاتبة مقال في أي صحيفة إلكترونية أو جريدة ورقية أو حتى مجلة، لمَ لا؟

وهذا ما حدث حيث بدأت بالقراءة الدؤوبة ثم الكتابة والكتابة والقراءة، بدأت بمراسلة عدة صحف إلكترونية، وجميعهم رحبوا بي وبدأت بالكتابة التطوعية معهم.

ثم بدأت بمراسلة جريدة عكاظ، ورحبت بقلمي جدًا، وهنا كانت البداية الذهبية لكل شيءٍ يعقب هذه اللحظة الخالدة في ذاكرتي، لم أصدق حينها بأن جريدة عكاظ قد ترحب بقلمٍ ما زال ينقصه الكثير، لكن عكاظ آمنت بي، و إيمانها انعكس حينها عليّ، حيث بدأت بالتوّحد مع مداد حرفي، وبالكتابة الفعليّة.

كتبت في عكاظ ما يقارب 6 مقالات اجتماعية، ثم توقفت عن الكتابة، حيث بدأ حلمي يكبر ويأخذ منحنى آخر، لأني بدأت حينها أحلم أن يصبح لي عدة إصدارات ورقية، تخلدني للأمد.

وهذا ما فعلته حيث أصدرت كتابي الأول، الذي كان عبارة عن مجموعة من النصوص والخواطر التي كتبتها وأنا في المرحلة الثانوية، ولولائي لتلك المرحلة، أحببت تخليدها كما هي رغم ركاكة الحرف وبساطة المعنى، ورغمًا عن كل الانتقادات التي ستأتيني بعدها، المهم حقًا هو أن أحقق رغبة والدتي كما كانت رغبتي. أصدرت ذاك الكتاب الذي فاجأني بنجاحه الأول، رغم أني حديثة الاسم أمام هذه المساحة الهائلة بأسماء المؤلفين و الأدباء.

بعد نجاح الكتاب وبعد الصدى الذي رافقني لوقتٍ لا بأس به، وبعد أن بدأ المتابعين في التويتر بازدياد شعرت للمرة الأولى بالمسؤولية التي أحملها على عاتق حرفي، شعرت بِعظمها وبقوتها.

حينها فقط أدركت بأن هذا هو شغفي الذي كنتُ أبحث عنه مطولًا، بينما هو بين يديّ، وبين دفاتري، فقط ينتظرني أن أشكلّه و أكتبه.

ولأنه قد يأتينا الفرح من حيث لا نحتسب، جاءتني الأقدار على هيئة دهشة لم أكن لأتوقعها.

جاءتني دعوة من مجلة سيدتي للكتابة فيها بشكل دائم، حيث ستصبح لي صفحة مستقلة وخاصة لمقالاتي التي سأكتبها فيها، هذه الدعوة المختلفة في كل شيء، والحلم العظيم الذي يرافق كل كاتبة، بأن تصبح لها صفحة خاصة في مجلة لها اسمها وتاريخها العريق كسيدتي، لكنه تحقق لي ولله الحمد.

تلك اللحظة التي جعلتني أشعر بالنجاح، بالثقة الكاملة بحرفي، جعلتني ألامس غمام السعادة بنشوة غريبة، حيث كنت وما زلت أصغر كاتبة مقالات فيها، وهذا الأمر مدعاة للفخر، كما هو مسؤولية تضاف على عاتق لغتي وحرفي، لكنه كان تحديًا مثيرًا.

لي الآن على أول مقال نشر لي في المجلة ما يقارب سنتين، وحتى الأن لا أزال مستمرة فيها ولله الحمد، حيث أصدرت روايتي الأولى التي كانت بعنوان (ديجافو) وهو مصطلح فرنسي لظاهرة علمية معناها: شوهد من قبل، ولي إصدار آخر سينشر خلال الأشهر القادمة بإذن المولى.

لا أعلم إلى أين سيقودني قلمي من جديد، وإلى أين ستكون وجهتي القادمة، لكني أعلم بأني لن أكف عن الحلم، والتمدد والطيران كنورسٍ لم يتعبه المدى، بل كان محرضًا له على العيش والقتال في سبيل أن يحيا مع شغفه حتى النهاية.

كل شخص منّا يتعثر، يسقط، يُجرح ويُخذل في بدايات سيرهِ، لكن كل تلك الإخفاقات سواءً كانت على الصعيد العملي أو العاطفي أو حتى الاجتماعي، ما هيّ إلاّ لحظات سنذكرها بامتنان وعرفان كلما لامسنا نجاحًا جديدًا يُضاف إلى مسيرتنا.

وهذا ما حدث معي، كما حدث مع الكثيرين، فقط حوّل حلمك إلى حقيقة، رغمًا عن مرارة الواقع، تخبَّط، ابكِ، اصرخ وافعل ما تريد، لكن تعلّم من كل تلك الفوضى التي ستعيشها، واجعلها دافعًا للمضي قدمًا، وليس حجة للتوقف والانزواء خوفًا، المهم حقًا هو أن تثق بنفسك قبل أن تثق بالآخرين، أو بحديثهم الذي قد يثبط من عزيمتك في أي لحظة.
الكاتبة / سلمى الجابري

About سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

Check Also

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …

اترك تعليقاً