العمل التطوعي ورقي المجتمع

التطوع بات من الأعمال الظاهرة البارزة اليوم في واقع الشعوب ومقياساً لرقيها،وخاصة في ظل وجود الأزمات والمحن التي تصيب البشرية نتيجة الحروب أو الكوارث، وصارت الأمم والشعوب أفراداً وجماعات يتسابقون إليه، وقامت من أجله المؤسسات والجمعيات، وهذا مما ينبغي أن يكون المسلمون أسبق إليه.

وتعريف التطوع هو تَفَعُّلٌ من الطاعة، وتَطَوَّعَ كذا: تَحَمَّلَه طَوْعًا، وتَكَلَّفَ استطاعته، وتطوع له: تكلّف استطاعته حتى يستطيعَه، وفي القرآن:” فمن تَطَوَّعَ خيراً فهو خير له” فالعمل التطوعي إذن هو: تقديم العون والنفع إلى شخص أو مجموعة أشخاص، يحتاجون إليه، دون مقابل مادي أو معنوي، وهو مصطلح واسع ومفهوم شامل وثقافة نبيلة من شأنها أن ترتقي بأي أمة من الأمم إذا ما طُبِّقت بالشكل الصحيح، فالعطاء ليس مجرد عطاء مادياً فحسب، وإنما هو عطاء مختلف من حيث الحجم والشكل والإتجاهات والدوافع من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى.

فهناك من يتطوع في تقديم الإستشارات المجانية لأحد القطاعات الخيرية كدور الأيتام والمعاقين، وهناك من يخصص ساعات في عيادته لاستقبال المرضى الفقراء دون أجر، بل هناك من يدير مؤسسات خيرية بالكامل دون مقابل في أوقات المساء، وهناك من يقدم خدمات إدارية في الوقت الذي لا يكون المرء مرتبطاً فيه بوظيفة متخلياً عن وقتٍ قد يقضيه في مشاهدة التلفاز أو السهر مع الأصدقاء، فأن تعطي من وقتك وجهدك وتساعد المرضى أو تعمل على النهوض بمؤسسة وطنية، فهذا أقل جهدٍ تقوم به لرد المعروف إلى بلدك والمساهمة في تنميتها وإشاعة التكاتف والتماسك الاجتماعي بين المواطنين، لاسيما أن التطوع واجهة حضارية تعكس وعي الأفراد، أما عدد المتطوعين على مستوى العالم تقريبا فقد بلغ  250مليون متطوع وهذا الرقم في إرتفاع مستمر وخصوصاً في ظل الكوارث الطبيعية والحوادث الطارئة والحروب والأزمات والتي تتطلب جهوداً تطوعية عالمية ويمثل 55% من المتطوعين من الفئة العمرية مابين 35- 54سنة ويشكل الجزء الاكبر منهم من النساء بحوالي 58% ويفيد مكتب «القطاع المستقل»، وهو منتدى للمنظمات الخيرية بالولايات المتحدة الأمريكية بأن نصف الراشدين الأميركيين تقريباً يقومون بأعمال تطوعية ويقدّر التقرير أن التطوع للمشاريع الخيرية يصل إلى 135 ألف ساعة سنوياً، أي أن تلك الساعات إذا ترجمت إلى مبالغ فإنها تصل قيمتها الى 4 مليارات دولار،ويوضح التقرير أيضاً أنه مع أخذ كل هذا في الإعتبار، فإن المنظمات الأميركية الخاصة والتطوعية قدمت مبلغ 9.7 مليارات دولار إلى البلدان النامية عام 2004م، أي ما يزيد على ما قدمته حكومة اليابانية في نفس العام ،فالتطوع ظاهرة إجتماعية أصيلة تحقق الترابط والتآلف والتآخي بين أفراد المجتمع، ولقد حثنا ديننا على ذلك كي يكون المجتمع كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم: “كالجسد الواحد”.أيضا فإن العمل التطوعي ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل شعوب البشرية، ويكفينا دعوة الله تعالى في قوله: “وتعاونوا على البر والتقوى”وقوله: “فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له”وقول الرسول صلى الله عليه وسلم” أن لله عباداً اختصهم لقضاء حوائج الناس، حبهم للخير وحب الخير إليهم، أولئك الناجون ! من عذاب يوم القيامة”وقوله أيضا “لأن تغدو مع أخيك فتقضي له حاجته خير من أن تصلي في مسجدي هذا مائة ركعة”وقوله ( من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من إعتكاف عشر سنوات )وقوله” لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين” وقوله” الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار” وقوله ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) متفق عليه . وقوله” من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له” وقوله ” خير الناس أنفعهم للناس ” وهذا الحديث يشير الى نفع الناس أجمعين وليس نفع المسلمين فقط وقوله ” المال مال الله والناس عيال الله واحبهم إلى الله أنفعهم لعياله” وقوله” تبسمك في وجه أخيك صدقة” وهذا يعني أن التصدق المعنوي له مكانته كذلك في الإسلام، وقد يكون البعض أشد حاجة له من التصدق المادي إن للعطاء التطوعي أثراً كبيراً على تطور وحضارة المجتمع، وهذا لا يلغي أثره على الفرد نفسه، فعلاوةً على عظيم الثواب والجزاء في الآخرة، فإن جميع من مارس العمل التطوعي شهدوا له بالفضل في تعويض الكثير من جوانب النقص الروحي والنفسي والمهاري الذي كانوا يحتاجونه.

إن الكثير ممن يعانون من الاكتئاب والضيق النفسي والملل يُنصحون بالمشاركة في أعمال تطوعية، فهذا من شأنه أن يشغل أوقاتهم ويكسبهم الثقة في النفس ويرفع من قيمهم الروحية ويرتقي بتفكيرهم ويرفع من مستوى طموحهم ويعطيهم أملاً في الحياة ويمنحهم شعوراً بالسعادة، نعم فلا أجمل من أن تنجز عملاً مفيداً ليس من واجبك أن تقوم به، ولهذا فإن أغلب من مارس العمل التطوعي لمرة، يحرص أن يستمر على ممارسته كمهارةً حياتية وعادةً اجتماعية دائمة.،في كثيرٍ من الأحيان، يكون العمل التطوعي فرصة كبيرة لاكتشاف ميول الفرد المتطوع ومهاراته، حيث يتطلب العمل التطوعي في بعض الحالات بأن يقوم الفرد بنشاط لأول مرة في حياته، وبالتالي تعمل بعض مؤسسات العمل التطوعي على تدريب الأفراد المتطوعين وإكسابهم المهارات اللازمة لأداء المهمات الجديدة المطلوبة منهم، وهنا قد يميل بعض المتطوعين إلى ذلك العمل ويصبح هوايةً لهم فيطورون أدائهم في مجالاته، وقد يكتشفون مواهب جديدة لديهم لم يكونوا ليكتشفوها لو لم يقوموا بالأعمال التطوعية ،ولقد أشارت دراسة أجراها تايم بانك عام 2008 على مائتي مؤسسة رائدة في المملكة المتحدة (بريطانيا) أن 73% من أرباب العمل يفضلون توظيف شخص له خبرة في مجال العمل التطوعي على غيره 94% من أرباب العمل يعتقدون أن العمل التطوعي قد يضيف لمهارات الموظفين و 94% من الموظفين الذين تطوعوا ليتعلموا مهارات جديدة استطاعوا تحسين وظائفهم ورواتبهم أو تمت ترقيتهم فيما بعد.

كما أن الوعي المجتمعي العام بمفهوم العمل التطوعي مثلما أشرنا سابقاً يُشكّل واجهة حضارية للأمة ويعكس مدى رقيها ومستوى تقدمها ويسهم في بنائها وتطورها، لذا إبحث عن فرصة للعمل التطوعي وقدم وأخلص ولا تتردد، ففي التطوع أجر وتطور مهاري ومآرب أخرى- مجال العبادة : فالمسلم لايقتصر في عبادته على الفرائض والواجبات، بل يزيد عليها من خلال التطوع بالنوافل والسنن والقربات،والأمر واسع ومتاح للتنافس والتسابق في شتى أنواع العبادات كالصلاة والصيام والصدقات والحج وغيرها.

ومجالات العمل التطوعي كثيرة ومنها مايلي :-

المجال الاجتماعي: ويتضمن (رعاية الطفولة- رعاية المرأة – إعادة تأهيل مدمني المخدرات – رعاية الأحداث – مكافحة التدخين – رعاية المسنين – الإرشاد الأسرى – مساعدة المشردين – رعاية الأيتام – مساعدة الأسر الفقيرة). المجال التربوي والتعليمي: ويتضمن (محو الأمية – التعليم المستمر – برامج صعوبات التعلم – تقديم التعليم المنزلي للمتأخرين دراسياً). المجال الصحي: ويتضمن (الرعاية الصحية– خدمة المرضى والترفيه عنهم – تقديم الإرشاد النفسي والصحي – التمرين المنزلي – تقديم العون لذوي الاحتياجات الخاصة)..

المجال البيئي: ويتضمن (الإرشاد البيئي– العناية بالغابات ومكافحة التصحر – العناية بالشواطىء والمنتزهات – مكافحة التلوث). مجال الدفاع المدني: ويتضمن (المشاركة في أعمال الإغاثة – المساهمة مع رجال الإسعاف – المشاركة في أوقات الكوارث الطبيعية).

وأن من أبرز توصيات العمل التطوعي :

القيام بحملات إعلامية توعوية بأهمية العمل التطوعي ودوره في بناء المجتمعات المدنية الحديثه.

والسماح بإعلانات مجانية في وسائل الإعلام عن العمل التطوعي أسوة بالدول المتقدمة.

وفرض نسبة مئوية بسيطه غير الزكاة الواجية على الشركات المحلية والأجنبية ولاسيما البنوك لدعم الأنشطة التطوعية اللاربحية وخدمة المجتمع المدني.

ومشاركة الجامعات ومعهد الإدارة في إجراء بحوث تطويرية وميدانية عن العمل التطوعي بكافة أنواعه وتطويره إدارياً.

و إقامة مشاريع وقفية لتشكل عائداً مادياً على المشاريع التطوعية حتى يشكل ذلك إستقراراً.

وتدريس مادة العمل التطوعي الديني والاجتماعي والإنساني في المدارس وغرس ذلك في الناشئة.

وأن يتم وضع قواعد للجمعيات الخيرية وأنظمة محاسبية دقيقه وواضحة في قيودها حتى تستطيع تنظيم أمورها المالية. واحتساب درجات للعمل التطوعي في المدارس تضاف للطالب أوللطالبة.

ووضع لائحة تبين فيها حقوق وواجبات المتطوع وإعطائهم بطاقات تعريفية.

والتوسع بالعمل التطوعي بإنشاء الجمعيات لاربحية لمكافحة السرطان والتعليم المستمر ولمساعدة المرضى المحتاجون ورعاية المعاقين ورعاية المسنين وخدمة الحجاج والهلال الأحمر.

واستمرار الدعم المادي للجمعيات من الحكومة والأفراد سواء كان للجمعيات الموجودة أو التي المستحدثة.

إن الأنشطة التطوعية من أهم معالم التنمية الاجتماعية، لأن نمو حركتها واتساع قاعدتها، واشتراك أعداد كبيرة من الأفراد فيها تعتبر دلالة أكيدة على أن المجتمع إستطاع أن يبني طاقة ذاتية قادرة على النهوض به وصنع التقدم فوق أرضه، وقادرة على دفع المخاطر التي قد يتعرض لها.

سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …