كانت هذه القصة في عهد الخليفة الأموي [الوليد بن عبدالملك], فقد طلب الخليفة من عروة أن يأتي لزيارته في دمشق مقر الخلافة الأموية, فتجهز عروة للسفر من المدينة النبوية إلى دمشق واستعان بالله وأخذ أحد أولاده معه [وقد كان أحب أبنائه السبعة إليه] وتوجه إلى الشام , فأصيب في الطريق بمرض في رجله. وأخذ المرض يشتد ويشتد حتى أنه دخل دمشق محمولاً لم يعد لديه قدرة على المشي!!
انزعج الخلفية حينما رأى ضيفه يدخل عليه بهذه الصورة, فجمع له أمهر الأطباء لمعالجته, فاجتمع الأطباء وقرروا أن به [الآكلة] وهي تسمى في عصرنا هذا [الغرغرينا] وليس هناك من علاج إلا بتر رجله من الساق.
لم يعجب الخليفة هذا العلاج, ولسان حاله يقول: [كيف يخرج ضيفي من بيت أهله بصحة وعافية ويأتي إلي فأبتر رجله وأعيده إلى أهله أعرجاً] ولكن الأطباء أكدوا أنه لا علاج له إلا هذا وإلا سرت إلى ركبته حتى تقتله.
فلم يجد الخليفةُ بداً من إخبار عروةَ بقرار الأطباء, فقال عروة: [اللهم لك الحمد] ولم يزد عليها كلمة واحدة.
واجتمع الأطباء على عروة, وقالوا: اشرب المرقد أو الخمر [وهو شراب مخدر أو ذاهب للعقل حتى لا يشعر بألم قطع ساقه وبترها] فرفض تماماً وأبى مستنكراً ذلك, وقال: كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟!
قالوا: فكيف نفعل بك إذاً؟! قال: دعوني أصلي. فإذا قمت للصلاة فشأنكم وما تريدون!! [وقد كان رحمه الله إذا قام يصلي سهى عن كل ما حوله وتعلق قلبه بالله تعالى]. وبالفعل قام يصلي, وتركوه حتى سجد, فكشفوا عن ساقه وقطعوا اللحم حتى وصلوا للعظم, ثم أخذوا المنشار ونشروا العظم, حتى قطعوا الساق كاملةً وهو ساكن مطمئن بصلاته لم يحرك ساكناً.. وأرادوا إيقاف نزيف الدم, فسكبوا على الجرح الزيت المغلي, وعندها فقط لم يحتمل حرارة الزيت, فأغمي عليه.
وفي هذه الأثناء أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة بن الزبير الذي جاء معه من المدينة كان يتفرج على خيول الخليفة في الإسطبل, وقد رفسه أحد الخيول فوقع ميتاً. فاغتم الخليفة كثيراً من هذه الأحداث المتتابعة على ضيفه, واحتار كيف يوصل له الخبر المؤلم؟!
فذهب الخلفية إلى عروة بن الزبير بعد أن أفاق, واقترب إليه وقال: أحسن الله عزاءك في رجلك. فقال عروة: اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. قال الخليفة: وأحسن الله عزاءك في ابنك. فقال عروة: اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون, [[[أعطاني سبعة أبناء وأخذ واحداً, وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً, إن ابتلى فطالما عافا, وإن أخذ فطالما أعطى, وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة]]] ثم قدموا له طستاً فيه ساقه وقدمه المبتورة, فأخذها وخاطبها قائلاً: إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم.
بدأ عروة رحمه الله يسير متوكئاً على عصاً, فدخل ذات مرة مجلس الخليفة, فوجد في مجلس الخليفة شيخاً طاعناً في السن مهشم الوجه أعمى البصر, فقال الخليفة: يا عروة!! سل هذا الشيخ عن قصته. فقال عروة: ما قصتك يا شيخ؟!
فقال الشيخ: يا عروة اعلم أني بت ذات ليلة في وادٍ, وليس في ذلك الوادي أغنى مني, ولا أكثر مني مالاً, وحلالاً, وعيالاً, فأتانا سيل بالليل. فأخذ عيالي ومالي وحلالي, وطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا طفلاً صغيراً, وبعيراً واحداً.
فهرب البعير, فأردت اللحاق به, فلم أبتعد كثيراً حتى سمعت خلفي صراخ ابني الصغير, فالتفتُ فإذا برأس ابني في فم الذئب فانطلقت لإنقاذه فلم أقدر على ذلك فقد مزقه الذئب بأنيابه, فعدت لألحق بالبعير فضربني بخفه على وجهي, فهشم وجهي وأعمى بصري.
قال عروة: وما تقول يا شيخ بعد هذا؟! فقال الشيخ: أقول اللهم لك الحمد أن تركت لي قلباً عامراً ولساناً ذاكراً.