ذكرياتي مع قهوة الفيشاوي وخان الخليلي

حينما كنت في زيارة لدولة مصر كان لدي الرغبة والشوق لزيارة خان الخليلي وبعض المكتبات فيه وقهوة الفيشاوي والتي كان يرجع تاريخ تأسيسها لعام 1769م، بالقرب من جامع الحسين ، وكانت زيارتي قصيرة للقاهرة لأجل شراء بعض الكتب من هناك لأنها رخيصة جداً ومتوفرة ،ولكي أزور خان الخليلي لأجل إقتناء بعض التحف،

img_3707

img_3711

img_3709

وأما سر الرغبة بهذه الزيارة لأن الدافع كان موجوداً في ذاكرتي منذ الصغر، حيث كنت أرى عمي أبراهيم رحمه الله يشتري الكتب والتحف من هناك وهذا كان من أربعين سنه ويشتري الألبسة الأنيقة والتي لم تكن معروفة في ذلك الوقت لأن العامة يعتبرونها غريبة وهي القمصان والبناطيل وكان يفضل رحمه الله القميص طويل الأكمام وكان في الصيف يسفط أكمامه وكان يلبس البنطلون والقميص ولونهما الكاكي  واحد منهم فاتح والآخر الكاكي الغامق،وكان أحياناً يلبس البنطلون الأزرق وكان هذا لبسه أحيانا في المنزل، ولكنه يلبسه بشكل دائم في رحلاتنا البرية مع العائلة حيث في هذه الرحلات تكون بصحبته بندقيته الشوزن والنظارة الشمسية ،وكان رحمه الله يشارك في بعض مسابقات الرمي ولقد تأثرت بعمي رحمه الله فقد كان لديه كتب في شتى المجالات وروايات عربية وأجنبية ،وقد كان سباقا لعصره لأنه كان وسيماً ومثقفاً وأنيقا

IMG_3777

لذلك كنت أُريد الذهاب وحدي لأخلو بعقلي وروحي لهذه الأماكن لأستعيد ذكرياتي الجميلة حيث كنت أتذكر التحف التي كان يحضرها عمي إبراهيم مثل المرتبات المدورة المخططة بالأسود والذهبي أو الأحمر والذهبي، والتحف مثل التماثيل والصحون النحاسية المنقوشة، وبينما كانت هذه الخواطر مستمرة وأنا في الفندق لكي أذهب بتاكسي أو وسيلة نقل أو المشي ، فقررت الخروج من الفندق عصراً  وقلت للسائق يأخذني إلى هناك في وسط البلد عند خان الخليلي،وحينا وصلت قبل خان الخليلي بمسافة قلت للسائق بأن يوقف السيارة وأعطيته أجرته و قررت المشي قليلاً ،إنها مدينة مزدحمة ومزعجة ليست بالسيارات فقط ولكن حتى بالبشر وفي حركة دائمة مستمرة ليل نهار ،لذلك كنت مرتدياً معطفي الشتوي للحماية من تقلُبات الجو ، وبوت رياضي للمشي لساعات تحسُباً للزحام في القاهرة ،حيث قررت المشي المُطوّل مهما كان المِشوار، وكنت أفكر أيضاً بأمر رحلتي على الطائرة للرياض ، في صباح اليوم التالي، وحينما زرت خان الخليلي رأيت الألوان المُبهرة والأزقة المليئة بالبشر والسُيّاح وروائح البُهارات العجيبة، وأصوات الباعة تتكلم بكل اللُغات لتجذب الزبائن، إنها لوحة جميلة تتوهّج بفرح كُلّما حلّت أمام عيني وستبقى ذكرى خالدة في عقلي ماحييت ، وكأني رأيت الكنوز الاثرية  وعِطر التاريخ الذي يتركّز في كل زاوية، أو  كأنما دخلتُ بوابةً الزمن وقد سحبتني للماضي مشيت كالمنوم مغناطيسياً بلا هدف ولا وجهة، أدخل في الأزِقة دون حتى معرفة أين أنا، لاأسأل، فقد سحرني جمال المكان والناس وتاريخه فقط أتجول وأُصوّر كُلما تذكرت واتأمل ماحولي المشربيات والأسقُف الجميلة الضخمة والمصابيح العُثمانية الرائعة التي تتلئلئ بِجلال في كل مكان، ومررت بأسواق الحِرفيين لكل أنواع الأعمال اليدوية التي تتخيلونها فهناك صناعات عديدة؛ مثل الحفر على الخشب، وأشغال الأرابيسك اليدوي، وتطعيم الخشب بالصدف، والنقش على النحاس والفضة، والرسم على أوراق البردي والزجاج الملون وصناعة الحلي والعقود والعاج والصناديق المُرصّعة بالفُسيفِساء ،والألآت الموسيقيّة كالعود والإيقاع والقانون والكمنجه وصُنّاع الأنية النُحاسية المِصريّة الشهيرة،.ِوصناعة الحُلي والمجوهرات والذهب وأنواع كثيرة من الأحجار الكريمة، ومحلات العطور والبخور ،حقائب وأحذية مشغولة يدوياً من جلد البقر والجِمال في غاية الروعة، المفروشات والملابس ،الكثير الكثير من الألوان التي تُبهر العين، ثم حينما مشيت قليلا رأيت من أمامي

img_3705 img_3706

img_3713 img_3715

img_3710 img_3712

img_3695 img_3699

img_3691 img_3696

img_3690 img_3697

المقاهي أمام مسجد الحُسين ومنها قهوة الفيشاوي قد بدأت تمتلئ بالزوار، الكثير وأتملأت الطاولات الخارِجية وعليها بعض الشباب والأُسر من السُيّاح من عدة جنسيات مختلفة تعلو أصواتهم بالحديث والضحِك فقررت بأن اشرب فنجان قهوة فيها فجلست على كرسي بالقرب من طاوله وطلبت من النادل قهوه تركية مزبوطه ثم بعد أن أحضرها بلحظات أخذت أرتشف منها وأتأمل في خان الخليلي وقهوة الفيشاوي العريقة و أخذت أتذكر الكتاب العظماء حينما كانوا يأتون هنا ، وكان هذا المكان مصدر إلهام لهم كما يتميز بكثرة أعداد السياح واعتياد سكانه عليهم، ثم أخذت اشم روائح البهارات والأعشاب النفّاذة التي تتعدد إستخداماتها ما بين الطعام والعِلاج في محلات البازار والمطاعم الشعبية حيث المشاوي والمأكولات الشرقية المختلفة تملئ الدُنيا من حولهم ، وكان جواً سياحياً جميلاً و يستحق السهر فيه حتى الصباح، وكانت الإنارة جميلة على هذه التحف والألوان الجميلة ،كأنه فعاليه ثقافية سياحية رائعة لتاريخ المكان ، ويرجع تاريخ خان الخليلي إلى عهد المماليك ومن خلال هذه الذكريات وعبق المكان تراودني رغبة بأن لا أغادر هذا المكان وأريد البقاء أكثر لكي أستمتع بذلك ولكي أزور بعض الأماكن في القاهرة من المتاحف والأهرامات وأستمتع بالرحلات النيلية وأحضر عروض السينما والمسرح والسيرك وحفل الأوبرا ، فبعد مافرغت من شرب القهوة ناديت النادل وأعطيته حسابه مع بخشيش له ثم توجهت لمحلات خان الخليلي وأشتريت بعض مخدات الجلد المدورة وأشتريت بعض التماثيل ومريت على بعض المكتبات منها مكتبة التوفيقية ومكتبة حسام عبدالظاهر واشتريت بعض الكتب للأدباء المصريين مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ  والأدباء العرب والاجانب وبعض الروايات الأجنبية والعربية ،وأخذت بعضها في كيسه والباقي أعطيتهم العنوان على أن يشحنوها لي على عنواني في الرياض ثم ذهبت وألتفت خلفي و أتأمل المكان وأنا أغادره لأنني أشعر بأني لم أشبع روحي ولم أملئ عيناي منه ، وكنت أمشي وأتأمل وشعرت بأن  الوقت قد ذهب سريعاً حتى حل وقت الظلام وأنا أسير،وبدأ الجو من حولي يزداد برودة فقُلت لنفسي ربما من الأفضل العودة للفندق بتاكسي سريعا لأُرتب حقائبي ولأضع الكتب فيها وحتى أستيقظ في الصباح المبكر في اليوم التالي،وفعلا أوقفت تاكسي وأخذني للفندق الذي كان لايبعد كثيرا عن خان الخليلي، وكنت أقول لنفسي لقد كنتي سعيدة بسعادة  لم تشعري بها يوماً من قبل، وإكتشفت بأني لااعطي نفسي حقها،ولا أُصادقها ولا أترك لها العِنان للإنطلاق والمغامرات ففي هذه الرحلة برغم سفري وحيدأً، فقد إستمتعت و زرعت الثقة في داخلي وجعلت نفسي تتحرّر من تلك القيود وتمزق غِشاء الخوف من داخلي ،وكأنني قد أصبحت هيثماً صغير علمه والده الطيران بين عالي السحاب و الجبال وله جناحان قد نضِجا كِفايةً لكي يرفرِف بِهِما في هذه الحياة بعيداً بكل حرية و ثقة ،وكنت سعيداً بسبب الإنبهار بأشياء كنت أتمنى أن أراها لأنني أحببتها منذ الصغر لذلك أحببت بأن أقتنيها، وقد كانت حقاً هذه الرحلة من أجمل الرحلات القصيرة التي قُمت بها في حياتي.
سلمان محمد البحيري

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …