كل سنة تأتي و يصادف فيها يوم ميلادي، يذكرني فيه أولادي وبناتي من خلال تورته وهديه وبعد ذلك أشعر بسعادة قوية تتملّك روحي وكل حواسي بسبب اهتمامهم وحبهم لي وحينما أتأمل أشعر بأني قد استطعت تخطي عاماً من عمري بنجاح وتعلّمت فيه الكثير من التجارب المفيدة والمؤلمة على حد سواء حتى وأن كانت من خلال أشياءً صغيرة داخل غُرفتي أو مكتبتي أو عملي أو من خلال اختلاطي بالناس، أشعر بحماس كبير للعام الجديد الذي سيحمل معه أحلاماً وخِططاً جديدة ولكن يوم ميلادي في هذه السنة مُختلف، حيث أشعر أني متمتعاً بالنضج و بالشباب والقوة لا أشعر أني قد كبِرتُ بالمعنى المعتاد الذي يذكُره الناس ولكن أشعر بسعادة لأنني قد أصبحت أتمتع بنوع لذيذ من النُضج والتحرر والوصول لمرحلة أستطيع أن أُقول فيها لنفسي وبكل ثقة بأنني أتحكم في نفسي ويمكنني للوصول إلى الذي أريده وأقول لنفسي بسعادة وانتصار عجيبين: إنه نصف قرن يا سادة.. ليس شيئاً يُستهانُ به ومن خلال نظرتي للسنوات الماضية أرى نفسي قد تطورت وتغيرت بمرور الأيام وجعلت مني إنساناً أفضل أو مازِلتُ أسعى لأكون أفضل عن نفسي التي من قبل، فقد أصبحت أكثر تسامحاً الآن مقارنة في مرحلة المراهقة وعنفوان الشباب ، ففي السابق حينما كان يغضبني شخص ما ، فأنا لا أنسى ذلك ولا أعفو ولابد بأن أنتقم وهذا في اعتقادي في مرحلة العنفوان والقوة من عمر الإنسان ،حيث الكِبرياء في أوجّ عظمتهِ ولكن الآن لا أعتبر أحداً عدواً وحينما سامحت شعرت بأنني قد أنزلتُ أحجار ضخمة ثقيلة كانت ضاغطة على صدري إلى الأرض وعندما لم أعُد أهتم أصبحت حياتي افضل حينما استطعت أن أُسامِح وأن أعفو وقد أصبح قلبي خفيفاً كريشة ونقياً كنهرٍ في الجبال لم يمسّه أحد يا له من شعور رائع براحة البال و بالسلام مع نفسي والشفافية وقد لاحظت في العشر السنوات الأخيرة من حياتي بأن الوعي الروحي والنفسي بدأ يتزايد و يرتفع بسُرعةٍ مُذهِلة وكل يوم صرت أتعلم قيمة جديدة، فكل كِتاب قد قرأته كان كالكنز الذي يثريني بعلم ومتعة لم أُدرِك مدى ذلك من قبل وكل شخص قد قابلته في حياتي تعلمت منه سواء كان درساً سلبيا ومؤلماً أو تعلمت من شخص آخر درساً إيجابياً ومفيداً قد أثرى معلوماتي وحياتي فهذه كدروس يجب علي تعلمها فكل يوم نُضجٌ وراء نُضج وأنا أعلم أني لازلت أتعلم فلا يوجد إنسان يُمكِنه إتمام التعلّم والوعي مادام على قيد الحياة ولكنه في نظري وعي عجيب يجعل حياتي أجمل فبذلك أدرك كل يوم لما أنا على هذه الأرض ولما وضِعتُ في هذا المكان وكيف أتحرك فيها ومنها وإليها كل يوم هو بالنسبة إلي اكتشاف جديد بحدِ ذاته فأنا قد نشأت في بيئة وأُسرة مُحافظة بحيث كان كل شيء مُرتباً ومنظماً خِلال حياتي وكل شيء له إجابة عن الأسئلة في الحياة عن الوجود و الدين، القيم، الأفكار، العالم الآخرفكان كل شيء له أسباب منطقية دينية أتلقّاها بِعناية حتى تشبّعت بها بتصديق تام وكان ينقصني كيفية التعامل مع ظروف الحياة والتعامل مع الناس ولكن حينما تعاملت مع الناس والعالم الخارجي عادت كل الأسئلة تطفو على السطح أمام عيني و صار كل شيء كان منظماً قد أصبح في فوضى عارِمة، فصِرتُ أبحث عن كل شيء بنفسي فصرت اقرأ وأسمع وأتشاور مع الناس الذين لديهم حكمة وآخذ وأعطي مع كل أنواع العقول والأراء وآخذ ما أقتنِع به وأترك مالا يعجبني حتى ملابسي لم تسلم وكذلك تخصصي الذي اخترته عن حُب، علاقاتي التي بنيتها بسنوات من الصبر، هواياتي، ديني وبقدرِ ما أحدث هذا الانقلاب من فوضى دامت عدة سنوات ولكن الآن بعد وضع القواعد الجديدة والبناء من جديد صارت لدي طمأنينة بقلبي وأصبحت لي قيم تبني نفسها كالجبال الصامدة بالإيمان والعلم وتجاربي وتجارب الآخرين في الحياة لذلك صرت أستشعر المسؤولية عن نفسي وعمن حولي وأحاول اتخاذ القرارات الصائبة والتي يصبح بعضها يستحيل أن يتم كما أريد وأحياناً يتغير ذوقي ومُتطلباتي وأرائي بِناءً على الظروف الصعبة ولذلك أحتاج لاتخاذ موقع القائد على حياتي وعن الذين أنا مسؤول عنهم أكثر فأكثر. لذلك فحُبي لأسرتي مع تعلُمِي لقيادة مسؤولياتي يكوّنانِ سِمفونيّة جميلة في حياتي، تُعزّز بذلك ذاتي الحقيقية يوماً بعد يوم، فصار اعتمادي على نفسي بقدر ما هو مُتعب أحياناً إلا أنه يُشعِرني بالحياة، يُشعرني بأنه لي بصمة في حياتي من خلال هذه التجارب والأخطاء الي أمر بها وأتعلم منها ،فبذلك تكون حياتي مغامرة و مثيرة وتستحق أن تعاش ففي السابق قد كنت أحكم على الآخرين من وجهة نظري واعتبر أراء الآخرين خاطئة وهذا طبيعي تماماً عندما كنت في عُمرٍ صغيرة و أمتلك خِبرةٍ وثقافة قليلتين وآخذ نظرتُي للحياة من مصدر واحد ورأي واحد وأوجّه له كل ولائِي بِلاَ تفكير فبعد هذه السنوات التي مرت أدركت بأن للحياة عدة وجوه وزوايا يمكن أن أنظُر من خِلالها ومئات الأراء في القضيّة الواحِدة يُمكِن أن أناقِشها وأتفهمُها من خلال الحوار الراقي وليس على شرط بأن أكون على صوابٍ دائماً وإن كنت على صواب فغيرُي أيضا قد يكون على صوابٍ أيضاً في نفس الموضوع بس من وجهة نظر أخرى، لأنه بإمكانك أن تنظر للعالم بالكثير من الزوايا المختلفة ، لذلك صرت لا أدخل في ذمة من يخالفني الرأي ولا أنتقِدُ أحداً بِشدّه وأقلل من شأنه أو من تصرُفاته، لأنه اختلف معي في الرأي لأنني ربما سأدرك وجهة نظرِه في المستقبل وأرى بالفكر الذي رأى به وبالأسباب التي أخذ بها لأني أدرك بأن العالم مليء با لفلسفات والأديان والمذاهب والعلوم والاتجاهات الفكرية والسياسية والروحية، لذلك صرت أومن بأنني لست الوحيد المصيب في رأيي فنحن لا نعيش في مكان منعزل عن العالم والكون أو في كهفٍ ، بل في كون مُمتد بالاختلاف والتنوّع الحضاري أتعلم وأتعرف عليه بعيون مُحِبّة وتريد أن تتعلم منه لا رافِضة وإن انتقدت شخص فأحافِظ على احترامي لرأيه ،لذلك صرت أكثر حرية في إبداء رأيي واحترام رأي الاخرين وأدركت بأن الحرية تنبع من داخلي وليست من الخارج وقد شعرت بذلك منذ اربعة أعوام وأدركت بأنه لابد إذا كنت حُراً في قلبك وفي نفسك وتؤمن بأن لا أحد في الكون له سُلطةً عليك إلا الله، فلن يمتلِكُكَ أحداً أبداً ولن يحزنك أحد لذلك كونوا جميلين من الداخل وأنظروا بحب لهذا الكون وكونوا أحراراً بأنفسكم، مهما كانت قيود المُجتمع والعمل والأُسرة في دواخِلِكُم وأُشعروا كأنكُم طيوراً مُهاجِرة تحلق لا قانون يحكمها إلا هدفها وغايتها ذلك الحُريّة تجعَلُ منّا بشراً وليس قطيعاً من الحيوانات ،لأن الحرية تجعلُ من أرواحِنا شيئاً حقيقياً ذو قيمة وليس مزيفاً أو تابعاً، فالحرية تعني الإبداع في الحياة وأن نكون ملهمين للآخرين والتأمل في هذا الكون الواسع لننهل منه عجائبه وغرائبه ،لذلك لا تسجِنوا أنفُسَكُم في أفكارٍ مُهترِئة أكل عليها الزمن و شرب وعاداتٍ بالية وعنصرية وعصبية منتنة وأطلقوا العِنان لعقولكم ولأرواحِكم لكي تحلق بكم عالياً في الأعلى وغير ذلك فأنتم تسجنوا أنفسكم بإرادتكم فالسجون المعنوية، دائماً ما تكون مثل السجون التي تحت الأرض مُظلمة وخانقة وقاتلة للقلب والعقل والروح.
سلمان محمد البحيري