لماذا خف وهج المدونات ؟!

لماذا خفت وهج المدونات ولم تعد تثير الضجيج الكبير الذي كنا نسمعه من قبل؟ ما رأي المدونين بما تشهده مدوناتهم من مراوحة؟ وهل بات الكتاب منقسمين إلى قسمين، إنترنتيين لهم لغتهم وعالمهم، وورقيين لهم منطقهم وتطلعاتهم؟ وما الذي يتطلع إليه الإنترنتيون؟ وبماذا يتميز أدبهم إذا كان غاية ما يسعون إليه هو أن يصبح أدبهم ورقيا ومعترفا به من الورقيين؟

مثل جنين يستعد لمواجهة الحياة يواجه «أدب المدونات» باللغة العربية دنيا الإبداع، يحاول أن يبني لغة خاصة به، يشيد من خلالها تركيباته وتصاويره، خاصة بعدما أصبحت الكتابة عبر وسيط إلكتروني ابنا شرعيا للإبداع لا تنفي بنوته جنوحه وتمرده على لغة الآباء وتقاليدهم، وإن كان في نوبة التمرد بعض السلبيات إلا أنها مع ذلك خلقت إيجابيات استفادت منها بقية العائلة.

يقول الدكتور حامد أبو أحمد، أستاذ النقد الأدبي بجامعة الأزهر: «المدونات خلقت فضاء رحبا أمام الأدب، فبعد أن سدت المنافذ في وجه المبدعين وضاقت الصحف بما يبدعونه وجدوا في المدونات حلا سحريا للتغلب على صعوبات النشر الورقي. لكن علينا أن نعترف أن من يستخدم تلك الوسيلة جيل من الشباب في أغلبه لديه لغته الخاصة بل نقده الخاص. فمثلما أفرزت تلك الوسيلة الإلكترونية مبدعيها تفرز نقادها أيضا. والنقاد من الشباب كذلك لديهم التقنية والوقت وعلى دراية بدروب المدونات والإنترنت للجري وراء الإبداع وملاحقته. وهي مهارات لا تتوافر عند الجيل التقليدي المتعاطي للأدب».

وبحسب أبو أحمد فإن لغة أدب المدونات أقرب للعامية وتأتي انعكاساً لتدهور مكانة اللغة الفصحى في حياتنا المعاصرة بشكل عام،ويضيف: «هذا لا يعني أن ظهور المدونات سبب تدهور لغة الأدب بل هي وسيط يعكس الواقع».

ولفت أبو حمد إلى أن الصحافة في أغلب مناطق العالم العربي تلعب دوراً مشجعاً على ازدهار أدب المدونات أو الكتابة عبر الوسيط الإلكتروني بشكل عام، فمع إهمالها نشر الإبداع الأدبي، وضيق مساحات الملاحق الأدبية باستثناء صحافة منطقة الخليج والصحافة العربية المهجرية لا يجد المبدعون مايحتضن إبداعهم سوى مدوناتهم على الشبكة العنكبوتية.

وأشار أبو أحمد إلى أن بعض الشباب من أصحاب المدونات كتبوا قصصاً وروايات على مدوناتهم وبعد تحقيقها نجاحاً وانتشاراً بين جمهور الأدب المتفاعل على الإنترنت ضم هذا الإبداع في كتاب ورقي،وذلك برأيه له دلالة هامة وهي أن المدونات بديل للورق إلى أن يتاح أمام المبدع النشر المطبوع.. لكن مع اللجوء إليها يكتسب الإبداع خصائص جديدة وتتميز لغته بسمات خاصة.

من بين الأسماء التي حققت شهرة كبيرة في عالم التدوين غادة عبد العال، بدأت بمدونة ساخرة اسمها «سوسة المفروسة»، ثم أعقبتها بمدونة «عايزة أتجوز» قبل أن تدشن مدونة ثالثة عنوانها «من جوه». وبعد الانتشار والنجاح اللافتين لمدوناتها، طبعت غادة «عايزة أتجوز» في كتاب حقق مبيعات عالية. ويدور حول خبرات فتاة في سن الزواج مع الخطاب وعائلاتهم. لمعت غادة فاستكتبتها صحيفة «الشروق» اليومية، وتعكف حاليا على كتابة سيناريو لمسلسل تلفزيوني مأخوذ عن مدونتها، إضافة إلى كتابة مسلسل كارتون.

تقول غادة: «تراجعت نسبياً الكتابة عبر المدونات وإن ازدهرت أشكال أخرى للكتابة الإلكترونية مثل تلك التي تحتضنها المواقع الاجتماعية كـ(الفيس بوك). وعموما الكتابة من هذا النوع تتميز بالتفاعل الكبير واللغة الخاصة، لكن الوسيط الورقي أكثر نضجاً،فالتعليقات التي تأتيني على كتاباتي في الصحيفة أكثر وعياً وإن كانت أقل عدداً، ومن هنا فإن القدرة على تطوير الأدوات والاستفادة من التعليقات وتفاعل المتابعين، لا تزال أضعف على الإنترنت منها في الوسائط المطبوعة».

التأثيرات التي تحدثها كتابة المدونات على اللغة ليست قليلة، فقارئ الإنترنت برأي غادة «متعجل ولا يتحمل قراءة النصوص الطويلة،وعلى عكس الكتاب المطبوع لن تجد نصوصاً تمتد إلى 600 صفحة أو أكثر، بل هي نصوص مختصرة وخفيفة نسبيا». وتقول غادة «إن الموهبة الحقيقية ستشع عبر أي وسيط سواء كانت أدبا أو كتابة صحافية أو رسما أو غيره، أما المدونات فما هي إلا وسيط».

وبحسب الروائي الشاب والمدون نائل الطوخي، فإن الكتابة عبر المدونات منحت لغة الإبداع قدراً أكبر من السخرية، كما تعطي المبدع آفاقاً رحبة للتمرد على تقاليد الكتابة المدرسية بهامش أكبر وأوسع من التجريب، سواء كان هذا التجريب عن مهارة أو حتى عن جهل. ويقول نائل إن «الإمكانيات التي يتيحها الوسيط الإلكتروني ثرية للغاية، فتقنية (النصوص الفائقة) تعد امتداداً نسبياً لفكرة الهوامش في النص المطبوع، ويمكن استخدامها بشكل أكثر ثراء، بما يؤثر على تكنيك الإبداع نفسه، بل يمكن استلهامها كتكنيك في حد ذاته للحكي».

وبرأي الطوخي فإن «هناك أدوات ووسائل يضعها الوسيط الإلكتروني أمام المبدع من الممكن أن تمتزج بأدواته التقليدية وتنتج نصوصا مختلفة خلال الفترات القادمة منها الفيديو والصور والصوت. والزمن كفيل باحتضان تغيرات كثيرة من المتوقع أن تتسبب فيها تلك الأدوات، والأدب استفاد على استحياء من تقنيات شبيهة في المطبوع ومنها (الكوميكس) أو القصص المصورة».

أما أبرز التغيرات التي أحدثتها المدونات فكانت في عملية الترويج للكتاب وتسويقه على نطاق واسع عبر طرحه لعدد كبير للغاية من القراء، ونشر أخبار عن حفلات التوقيع والندوات المقامة عنه، وهو ما يدفع الأدب للأمام ويمنحه قوة منشطة ومطلوبة.

وبرأي الروائي الشاب أحمد ناجي مؤلف رواية «روجرز»، وهو أحد المدونين، فإن الكتابة الأدبية عبر المدونات تجعل اللغة أكثر تكثيفاً كما أنها «تحرق المراحل» أي تختصر فترات التدريب والتجريب لدى الروائي الجديد عبر الوسيط الإلكتروني. فالكتاب المطبوع ببنيته المعقدة ومراحله الكثيرة من الصعب ممارسة التجريب فيه بشكل مكثف،فالتجريب والتدريب لا بد أن يمارسهما المبدع باستمرار للوصول إلى صيغة سردية ولغوية جديدة أو مبتكرة، وعبر المدونات تتم العملية بشكل أسرع.

وقلل ناجي من أهمية تفاعل القراء عبر المدونات في تطور النص الإبداعي،مؤكدا أن أهم عامل في التطور هو المبدع ذاته لأنه يكتشف قصوره عبر قراءاته، وكذلك آراء الناقد المتخصص. أما تعليقات القراء فتتسم أغلبها بالمجاملة أو المبالغة أو الآراء العاطفية غير المفيدة.

ويرى الشاعر أحمد زرزور أن «الفضاء الواسع الذي يتيحه الإنترنت من المؤكد أنه ساهم في حل علاقة الإيصال بين المبدع والمتلقي، فأصبحت تتم بمجرد الضغط على زر في الكومبيوتر. لكن هذا الفضاء الرحب والمرن هو في النهاية مجرد وسيلة، ولا يمكن أن يصنع كاتباً لا يتمتع بالموهبة الحقيقية، شاعراً كان أو روائياً أو مسرحياً، وأغلب أدب المدونات يتسم بالدردشة والثرثرة، ويفتقر إلى أبسط قواعد الانضباط النقدي واللغوي. إنه أدب هجين، لا يسعى إلى التأصيل والخصوصية، بقدر مايسعى إلى سرعة الانتشار، كما أنه مسكون بإيقاع الميديا اللاهث، وهو إيقاع عابر، كثير التبدل والتغير، بينما الأدب والإبداع يحتاجان إلى وقت وتمهل، واحتشاد وإعادة القراءة والمراجعة والتأمل حتى تنضج ثمرته، ويتم اقتطافها في أوانها.

ويخلص زرزور إلى أن الكتاب الورقي سيظل لسنوات طويلة هو الرحم الأمثل لاحتضان بذرة الإبداع، وتهيئة المبدع لأن يحاور نفسه، وفي الوقت نفسه يتأمل حوار العالم والعناصر والأشياء من حوله.

يسلط الدكتور عمار علي حسن الباحث والروائي الضوء على التغيرات الإيجابية والسلبية التي تصيب الإبداع عبر المدونات الإلكترونية فيقول «إن الإبداع هنا يكتسب تعبيرات جديدة مستمدة من استعمال الإنترنت وأغلبها تعبيرات هجينة تخلط بين العربية والإنجليزية، ويمتد الأمر إلى التشبيهات والصور فيمد العالم الافتراضي الأديب بمدد جديد. وضرب الباحث عمار علي حسن، مثلا بالأديب إبراهيم عبد المجيد الذي كتب روايته الأخيرة «في كل أسبوع يوم جمعة» حول فكرة رئيسية وهي التفاعل بين أبطالها عبر الإنترنت.

وإذا كانت المدونات أتاحت الكتابة والإبداع وجذبت قراء جددا بعيدا عن سيطرة دور النشر التقليدية فإنها بحسب عمار كانت لها سلبياتها وتأثيراتها غير المحببة أحيانا على الأدب، حيث سمحت لبعض المدعين والدخلاء بكتابة نصوص ركيكة وجدت طريقها للمتلقي دون أن تمر على لجنة اختيار أو تقييم على غرار تلك اللجان الموجودة في دور النشر.

ومن بين السلبيات الأخرى أن المدونات تشترط لمن يتعامل معها ويقرأها الإلمام بقواعد الإنترنت ومهارات الكومبيوتر، وهو ما يعني استبعاد شريحة كبيرة من الكتاب والنقاد ممن لا يجيدون تلك المهارات، إلى اليوم. ومن هنا عدم الاستفادة من النقد بالشكل الأمثل، بل إن القراء أنفسهم سيتسمون بصفات وشروط مسبقة وسيحرم من الإبداع قطاع عريض من المتلقين.
المصدر جريدة الشرق الأوسط

الكاتب/ محمد فتحي يونس

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …