أذكر أن أوسكار وايلد قد قال مرة بأن الأهم بكتابة رواية هو أن يكون لديك حكاية مقنعة وأن تشرع بكتابتها. أعتقد ايضاً بأن كل المشاريع الروائية تبتدئ من هذا الخيط، إذ بدون وجود هذه الحكاية والرغبة بتدوينها يصبح كل شيء مصيره العدم أو على الأقل مجرد مشروع كتابي في الذهن ولا يرى النور بهيئة كتاب. لعل هذا المنطلق يشير بشكل وبآخر لتجربتي الكتابية، إذ أنني مارست كتابة الشعر والقصة القصيرة لسنين طويلة، ودائماً ما خشيت الشروع بعوالم الرواية الشاسعة. مع ذلك لم تمر فترة من حياتي الكتابية التي تفوق العشرين عاماً دون أن اكون قد فكرت وبدأت بكتابة رواية جديدة.
هل كانت مشاريع مجهضة أم أن داخلي العصي كان يرغب في كل مرة أن يكتب رواية فريدة أولى؟ لعله من هنا جاءت الافكار والمشاريع المتتالية لتقتل بعضها البعض دون أمل برواية واحدة متكاملة. مع ذلك فكل التجارب الروائية المجهضة تلك والتي بدأتها في عام 1990 تقريباً هي ذاتها التي مدتني فيما بعد بدفعة هائلة ليتكون في داخلي كل ذلك الخزين من المعرفة والمران والتجربة لأكتب وأنشر الرواية الأولى. أفكار روايات ومران شهور وتفكير سنين طويلة بلا انقطاع تسترجع كذكرى حميمية لتشكل عندك النواة المهيجة لذروة الكتاب الروائي الأول. من هنا أعتبر كل تلك التجارب بمثابة تمارين على النص نفسه قبل أن يجد شكله ومحتواه النهائي في أول نص روائي متكامل.
لست من أولئك الكتاب الذين يضعون مخططاً لمشاريعهم الكتابية، أنا مشتت بطبعي وفي الكتابة لا أشذّ عن هذا الدرب، مع ذلك أشعر بالتزام معين مع نفسي على الأقل أن أكتب بجدية عندما أشعر بقوة الفكرة وإغرائها وأحاول أن أمنحها كل مناخاتها الممكنة. حقيقة ليس عندي فصل ولا وقت معين للكتابة. الكتابة عندي ممكنة في كل الظروف والأحوال. ما أحتاجه هو الوقت وحسب والذي قد تسعفني به شروط الحياة أم لا، ولكن من تجارب عديدة في حياتي دائماً ما أسطو على الوقت وأمطه كبساط رحب حتى أستطيع التمتع بوقت كافي للكتابة. شهور عديدة أمضيها بالبحث والقراءة وكأنني أهيّئ نفسي لتمرين الأشهر التالية للكتابة، قد يكون هذا حدياً أو صفة بأغلب مناخاتي الكتابية ولكنه ليس شرطاً ثابتاً، فالتجاوزات دائماً ما تحضر وبشدة. أميل وبشدة للفصول الدافئة، وهي الأشهر التي أشعر فيها بالتجدد ومسك الحياة من عرفها. أعتقد أن أغلب ما أكتب وأعيش كتابته في هذه الأوقات الدافئة من السنة، لكنني لا أعتقد أن لها علاقة بالإلهام بقدر ما لها علاقة بالارتياح الذاتي وكأنني أنتظر فصل الدفء لأواجه الورقة عارياً ومستعداً لتجريب كل المتع المتاحة في الكتابة.
كنت وما أزال أعتقد بأن الكتابة هي نوع من الرقى لمعالجة الروح قبل كل شيء، لذا أراها موجهة لإقناعي بجدواها قبل الآخرين، ولكن مع مرور الوقت أجدني متحيزاً لمراقبة ردود فعل الآخرين، بل بجدواها وقدرتها على إقناعي بجدوى هذه الرقى. يمكنني القول أنني توصلت لحل وسط ما بيني وبين القارئ، الكتابة بمعاضدة الذات ومن ثم الطفر حتى الخط المقابل لأكون واحداً من هؤلاء القراء. القارئ على أية حال هو الوجه المعكوس للكاتب في مرآة كتاباته. ولكن حتى هذه المرآة التي تنظر فيه لكتابتك الروائية من خلالها هي ذاتها معبأة بشحنات وشخصيات وحكايات متضافرة، مستوحاة من تجارب واقعية أم لا، كلها تنظر لك وتتلاعب بمصائرك الحكائية أيضاً.
من المقنع بالنسبة لي أن أجد ما يشدني لفكرة روائية، البحث عن كل صورها الممكنة سواء في نماذج واقعية أو تطويرها خيالياً من خلال مزجها بتجارب وقراءات ورؤى تتقابل معها أو تنفر. هل يمكنني القول أيضاً بفكرة تهييج تلك الحرية الداخلية غير المقيدة لتساعدني بمسك خيوطها المتنافرة والتعرف على شخوصها وأمكنتها وزمن تواجدها! الكاتب المقيد لا ينتج نصاً حراً ولا كتابة مقنعة، وهو ما أؤمن به على الأقل في الكتابة والحياة. هذه ليست قناعة مفبركة وجاهزة بقدر ما هي إنجاز نتوصل له من خلال المران الكتابي المستمر. قد أكون محظوظاً بأن أغلب ما كتبته وجد له مكاناً خارج شرنقة الرقابة الأخرى وكذلك الرقابة الذاتية. قد أكرر أقوال أخرى لكتاب آخرين، ولكن الحقيقة الوحيدة التي أراقبها هو أن أكتب نصاً جيداً متجاوزاً كل شروط الرقابة الذاتية. الكتابة في حياتي نوع من التطهر والحرية وهما نقيضان لا يلتقيان مع أي تشارط ورقابة ذاتية. مع كل كتاب روائي جديد أكتبه أشعر وكأنني لم أكتب بعد الكتاب الحقيقي الذي أحلم به، كتاب عميق يمثلني كلياً ويشير بشكل متميز لنتاجي والذي أحاول أن أكتبه في الكتاب القادم. ولكن الحقيقة هو أنني في كل مرة أجد أن ما أحلم به موجود في كل ما كتبته وكأنني أجمع هذه الشذرات المتناثرة في النصوص كلها لتشكل هذا الكتاب الواحد الوحيد الذي كتبته وما أزال أسعى للإضافة له بنصوص أخرى. ليس هناك رضى كامل ولا خذلان كامل، أعتقد أن الواحد منا سيستمر للأبد وكأنه في المحطة القادمة سيكتب أفضل ما عنده.
الرواية والشرط الروائي وآلياته بالنسبة لي لا تخرج عن حقل كل عمل كتابي وإبداعي أكتبه وأنوي كتابته في الفترة القادمة، إمساك خيط ما يقنعني بجدواه وضورة الإستمرار به. لا ابحث عن خوارق ولا مستلزمات متبطرة، بل وقت مناسب وحكاية مقنعة ولافتة للقارئ، ومن ثم التعب فيها وكأنها الكتابة الاخيرة التي تخرج من رأسي. لا أبخل بكل الحيل والتطريز الحكائي ومستلزماته الواقعية والخيالية وكأنني أصبها كلها في نص هو الاخير لي ولا عمل بعده، لأن بهذا وحسب ما يقنعني كصاحب للنص بجدوى وجوده ونشره ووصوله للقارئ. كل شيء بالنسبة لي ككاتب لنص روائي متاح ويجب النظر به والإستفادة منه. أعتقد انني بكل ما قلته سابقاً لا أحيد عن المسلمات المعروفة بالكتابة (والكتابة الروائية هنا)، ذلك أن لا حلول ولا أسرار ولا وصفات سحرية لكتاب جيد في زمننا هذا، غير التوق للكتابة والإصرار على الكتابة بوعي وحرص ومران مستمر حتى لو تجاوزت كتاباتك آلاف النصوص ومر من عمرك العشرات من السنين. الكتابة بلا قناعة معينة (ولو شخصية) لا تنقذ أي خطاب ولا آلية روائية، وبالتالي أي نص مكتوب.
الكاتب / عبدالهادي سعدون
Check Also
حكاية باب!
لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة لتحديد ملامحي النهائية. كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …