الرواية حقيقة في فضاء متخيّل

حبي للكتابة ليس بجديد، فمنذ أن كنت في سن المراهقة  كنت كل يوم أكتب يومياتي الشخصية وكل ما يدور من حولي من حزن أو موت أو أي حدث ترك أثرا  في قلبي، ولا بل أكثر إذ أنني في بعض الأحيان أكتب ما بعد الحدث وما تأثيره على الفرد، وهنا تدخل العواطف والأحاسيس الشخصية لأنني أكتبها من خلال ردة فعلي عليها، وهذا ليس بالضروري أن يكون قد حصل لصاحب الحدت نفسه.

بعضُ القرارتِ في الحياة، نحنُ نختارُها، أمّا قرارُ الكتابة، فهو ليس بجديدٍ بالنسبةِ لي. لقد رافقني منذ سنين، على أوراقٍ نثرتُها هنا و هناك. لم تَدم عُمراً، لأنني كنت أمزّقُها، مع بزوغ الفجر!

منذ أربع سنوات وبالتحديد في عام 2014م عادت ذاكرةُ الماضي، لم أنسَ ما كتبته، على أوراقِ قديمة، راحت تبتسمُ، وتقولُ لي: اكتبيني واكتبيهم، فكان “القميص الزهري” أول باكورة أعمالي، وهو عبارة عن ثمانية وسبعين نصا متنوعاً: وجدانيات وخواطر وقصص قصيرة كتبت فيه عن مواضيع مختلفة: إنسانية واجتماعية..

في الكتابة حرية لا يعرفها أو يشعر بها إلا كاتبها، أنت سيد نفسك، تغط وتحلق وتسافر أينما شئت، لا أحد يستطيع أن يزعج أفكارك ويمنعك من كتابة ما تريد وما أنت مقتنع به. أقضي أوقاتاً طويلة في الكتابة فهي فن مثل الرسم والموسيقى، بعض الكتابات تصل إلى القارئ وكأنه أمام مشهد سينمائي، إن استطعت أن تنقله معك إلى عالمك وجعلته يعيش الأحداث مع أبطالها فأنت نجحت.. أوليس هذا نوعا من الفن! بل من أصعب الفنون لأنك تحرك مشاعر القارئ من غير مشاهد حسية، ومن خلال حروف ترقص كنغمات الموسيقى ومهما كان نوعها، نغمات حزينة أم فرحة، أم مقنعة، المهم أن تصل إليه وتحرك مشاعره سلباً أو إيجاباً..

الكتابة دواء للكاتب والسامع والقارئ، الكتابة تنقي النفس من الألم والحزن والمعاناة والوجع والمشاعر المتناقضة والمتخبطة فهنيئا لكل شخص كتب ويكتب ليعبر عن مكنوناته وما يجول في فكره، الحروف وفية تحتضن جميع القلوب من دون استثناء وبغض النظر عن انتمائه ومعتقداته..

من منّا ليست لديه حكاية في الحياة ليرويها!

كل فرد لديه أكثر من قصة ليرويها، الفرق يكمن في كيفية إيصالها إلى الاَخر واستنتاج الحكمة والعبرة منها! وذلك يتطلب عدة شروط أولها: الموهبة والإحساس الفائق ومن بعدها يأتي الأسلوب والحبكة والتسلسل والإنسيابية والتشويق  لكي لا يضيع القارئ ويمل خلال القراءة..

هناك عوامل إضافية وإن اختلفت من شخص إلى اَخرأهمها: العزلة، الحزن، الخيبات والصدمات في الحياة والتجارب، الحياة أكبر مدرسة.. وللموسيقى دور مهم في تأجيج المشاعر الراكدة في العقل والقلب، أثبتت الدراسات بأن الإنسان عندما يسمع الموسيقى الحزينة تزداد قدرتَه على التعبير البعض تنهمر دموعه بصمت والبعض الاَخر يكتب بصمت، ويترك العنان للحروف بالبكاء عنه في صرخة تنتشر أصداءها حيث يجب لتبقى وتخلد..

مستحيل أن تكتب رواية من غير أن تكون شخصيتك وتجاربك في الحياة جزءا منها وإن أضفت الكثير أم القليل من الخيال: كتابة الرواية تعني الانتقال إلى عالم اَخر فنعيشه حقيقة، ومهما تعددت أبطالها، يبقى الكاتب البطل الوحيد الذي يحرك الشخصيات كما يريد ومتى يشاء.

في النهاية الرواية هي مجموعة أحداث متفرقة نجمعها كمن يلتقط النجوم في السماء ويضعها في قالب، وكله حسب الحدث، وإن كان في غير مكان وزمان، لكن يجب أن يكون كل حدث قد ترك أثرا في قلبه كي يستطيع أن ينقله بكل صدق وشفافية.. الروايات حقيقة، وإن كانت لا تخلو من الخيال، يغير الروائي الحدث حسب ما يتمناه أم ما يراه مناسبا، و في بعض الأحيان للهروب من واقع حزين فيعكسه حسب ما يتمناه، أم يتركه كما هو، لكن تبقى الرسالة والعبرة هي الأساس وهذه الإضافة الخيالية لن تؤثر على مضمون الرواية..

و“القميص الزهري” باكورة أعمالي كتبت عن الحب والموت والمرض والغربة والطبيعة، لكن جاءت على شكل نصوص متفرقة إن كان في الزمان والمكان ، ولكن المشاعر لم تتغير والهدف كان دائماً التطرق إلى الإنسان ومشاعره في جميع الأحداث والمواضيع..

على تلة بعيدا عن أرضِ الواقعْ والواقعْ يُحاصرُنا، نَسمعه في صدى أنين بُكاء الأمهات وصرخاتِ الوجعْ واَهاتِ عُشاقٍ ماتتْ قِصَصِهم قبلَ أن تبدأ.. اخترقَ الصدىَ قلبي، وانتَابني هذا الصمتُ الرهيبْ فاختنقتْ، جاءتْ الحروفُ تصرُخُ بوجهي، قائلةً اكتُبيني على ورقٍ لأعيشَ، انثريني رُوحاً تُرفرف على أجنحةِ حبٍ ماتَ، لأحيا. لأبقىَ. قلتُ لها “لكِ الطاعة”.. فكتَبَتني..

الروائية اللبنانية لونا قصير

 

عن سلمان البحيري

كاتب أومن بالإختلاف و حرية التعبير من غير أن تمس الثوابت الدينية والوطنية وحقوق الآخرين .

شاهد أيضاً

حكاية باب‬⁩!

لا أذكر الماضي بشكل جيّد، وليس لي «شجرة عائلة» تحدد نسبي! ‏لا أعرف ـ بالضبط ـ من أي شجرة أتيت.. ‏وبالكاد أتذكر رائحة أصابع النجار وهو يعمل بمهارة  لتحديد ملامحي النهائية. ‏كنت أظنني كرسيّاً.. دولاباً.. طاولة… شباكاً.. ‏لم يخطر ببالي أنني سأكون «باباً»! ‏  ‏حظي الرائع هو الذي أوصلني لكي أكون «الباب الرئيسي» لهذا المنزل الريفي الصغير في البداية كنت أنظر لسكانه بريبة وكانت خطوات الصغيرة «سارة» تـُشعرني بالرعب لأنني أعلم أنها ستنزع مقبضي بعنف – عند فتحي – وستجعل أطرافي ترتعد عند إغلاقي..وحدها«سيدة» المنزل ستعاتب «سارة» لتصرفها غير  المهذب معي فيما يكتفي«السيّد» بالضحكات العالية لشغب طفلتهما المدللة. …

بدايات الشغف

اقتربت أمي مني وهي تضع يدها على كتفي وتقول لي ،  أنصتي إلي نحن في …